بديع منير صنيج
ت: محمد فندي
كم تمنَّيت لو أن السخاء في المشاعر الإنسانية التي منحها المخرج «حسن عكلا» للممثل «عبد الرحمن أبو القاسم» بعد أن أهداه عرضه على خشبة القباني، انعكست على مستوى التفكير المسرحي في «قصة حديقة الحيوان» لإدوارد ألبي، التي قدَّم فيها أبو القاسم شخصية «بيتر» مع «محمود خليلي» بشخصية «جيري». فما تقوم عليه فكرياً لم يعد يُغرينا، لتكرر عرضها على خشبات المسرح السوري، ولأن القصة فقدت ألَقَها من ناحية النسق الفكري الذي تقوم عليه عبر الحفر في إنسانية الإنسان، وتخفيفه من مفرزات الحضارة، وصولاً إلى «حيونته» باعتباره كائناً يُخفي غرائزه البدائية باستمرار، حتى إن الإصرار الذي أراده المخرج على «السنترال بارك» في نيويورك لم يعد حاملاً منطقياً لعزلة الفرد عندنا، ورغبته في التعدي على خصوصية الآخر، ولا جامعاً للتفاوت الطبقي في المجتمع، بمعنى أنها غير صالحة لتكون مُسوِّغاً لنسج حميمية وعدائية في الوقت ذاته بين شخصين يلتقيان مع بعضهما للمرة الأولى، كما أن الكُرسي الوحيد بات ذريعة غير مُقنعة لتقاسم الحقوق والواجبات…، فالاكتفاء من قبل المعد والمخرج «عكلا» بالحد الأدنى من التدخل في النص الأمريكي المكتوب عام 1959، وبيئته، وبنيته العبثية، من دون الخوض في العبثيات التي نعيشها يومياً، وَضَعنا أمام قراءة مسرحية أكثر منها عرضاً، إذ من غير الجائز الركون إلى ما تقترحه حَرفيّة النص من غير البحث في روحه، فالعبث الأمريكي، وإن اختلف عن الفرنسي والأيرلندي والإسباني، إلا أنه بالتأكيد لا يتطابق مع العبث السوري، والعزلة التي تحدث عنها «ألبي» ضمن محاولات الإنسان لإيجاد نفسه في عالم لا معنى ولا قيمة له، حيث المبادئ الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية -التي شيدها لينقذ نفسه- تداعت، ولا تتماهى مع وضعنا، أيضاً ما قاله النقاد عن أن «قصة حديقة الحيوان» هي إضاءة شديدة القسوة على الرعب الوجودي للأمريكي العادي في مرحلة آيزنهاور، لا تصلح، بأي شكل من الأشكال، مع ما نعيشه حالياً، صحيح أن توهاناً كبيراً نُعانيه، لكنّ اللا معقولية والعزلة، كمُنطلقين فلسفيين، لا يمكن تعميمهما على الحالة السورية الآن كما أرادها المخرج «عكلا».
استثمار ضعيف للنص الأصلي، وتركيز على منطوق الشخصيات فقط، ليس لأنه غاية في حد ذاته، كما هو سائد في مسرح العبث، وإنما مجرد وسيلة لسرد حكاية نعرفها مُسبقاً، ما قلَّل الإبهار المُفترض، علماً أن ما يعنينا هنا ليس تسلسل القصة وتصاعدها الدرامي بمعناه الأرسطي، فالعبث بعيد عن ذلك، بل كيف ستُقدَّم لنا، باعتبارها وثيقة إنسانية عن هذياناتنا المتكررة في معرفة ذاتنا، أو على الأقل هذا ما كُنا نتمناه.
اعتمد «عكلا» بالدرجة الأولى على حضور ممثلَيه، «عبد الرحمن أبو القاسم» برصيده المسرحي الكبير الذي أدى شخصيته بتفانٍ، وطاقةٍ عالية جعلته ينهي العرض لاهثاً وهو ابن الخامسة والسبعين، و«محمود خليلي» الذي بدا مميزاً باختلافه الكبير على عهدنا به في أدواره المسرحية السابقة، إلا أن الابتعاد عن الفهم الحقيقي للنهج العبثي ووعي فلسفته الخاصة، وعدم القدرة على «سَرْيَنَتِه»، إن صح التعبير، قلّل من أهمية تعامل المخرج مع الممثلين، وهذا ما أبعد «عكلا» عن رؤية تنتمي للنوع، إذ كان تعاطيه وفقاً لأسلوب أقرب إلى الواقعي منه إلى العبثي، أضف أنه لم يتعامل بوعي معرفي مع السِّياقات المُفكَّكة لكلام شخصياته، ولا ما تظهره من إخفاقات نفسية في التعبير عما حولها من مُتغيِّرات، كل ذلك أثَّر في مغزى الإشكالية الدرامية المطروحة أساساً، وانعكس تالياً على الإخراج، وعدم إمكانيته في الوصول إلى أسلوبية توائم كل هذا العبث، ما جعلنا أمام رؤية تقليدية وحلول غير سحرية على الإطلاق، سواء فيما يتعلق بالإضاءة (بسام حميدي) التي تخلَّت عن دراميّتها مع زيادة في تحوُّلها إلى مُجرَّد إنارة، أو كرسي الحديقة الفاقد لمكانته كمركز ضمن هذا النص، لولا الدَّوران الأخير حول محوره الثابت (ديكور: أشرف عكلا)، أو الموسيقا المرافقة بكونها ذريعة ميلودرامية غير مقنعة (تأليف موسيقي: محمد عزاوي)… بمعنى أن اللقاء الأول الذي تحول فيه «بيتر» المُحرِّر في دار للنشر، الهادئ، والمنسجم مع ذاته، بفعل الاستفزاز المستمر من قبل «جيري» صاحب الإحباطات المتتالية، إلى شخصية أكثر عدوانية، بفعل النزعة التدميرية للنفس البشرية داخل مجتمع قاسٍ يسحق الإنسان ليتحول إلى حيوان شرس، لا يجعل سخرية «ألبي» اللاذعة من الرأسمالية الأمريكية قابلة للتساوق مع المجتمع السوري، حتى في ظل أعتى هجمات الإرهاب العالمي، وعلى رأسه القادم من بلاد العم سام!
Views: 3