مع إطلالة الربيع كان جلاء المحتلين الفرنسيين عن أرض الوطن ،ففي منتصف نيسان من عام 1946 رحل آخر جندي فرنسي محتل عن أرض الوطن بعد ربع قرن من المقاومة والنضال .. وكان للشعراء دور في التعبير شعرا" عن أفراح الشعب بالاستقلال وجادت قرائحهم بقصائد عبرت عن فرحة الشعب بهذا اليوم التاريخي . وقبل الجلاء واكب الشعراء النضال الوطني فكانوا يحثون الناس على الكفاح والثورة على المحتل ،كما كانوا يشهرون بجرائم الاحتلال ،وهو ما أثار عليهم نقمة المحتل ،وزج بهم في السجون وكان من الشعراء من يناضل بالبندقية والكلمة الحارة الصادقة. وردد المناضلون في سجون الاحتلال قصيدة (يا ظلام السجن خيّم ) وهي منسوبة إلى نجيب الريس ،وقيل: إنه كتبها عندما كان سجينا في قلعة أرواد عام 1922 ، فأصبحت نشيدا على شفاه الشعب، ففيها يؤكد على استمرار الكفاح ويبشر بشمس الجلاء : يا ظلامَ السّـجنِ خَيِّمْ إنّنا نَهْـوَى الظـلامَا … ليسَ بعدَ السّـجنِ إلا فجـرُ مجـدٍ يتَسَامى إيـهِ يا دارَ الفخـارِ يا مـقـرَّ المُخلِصينا … قدْ هبطْـناكِ شَـبَاباً لا يهـابـونَ المنونا و تَـعَاهدنا جَـميعاً يومَ أقسَـمْنا اليَـمِينا …لنْ نخونَ العهدَ يوماً واتخذنا الصدقَ دِيـنَا وشارك الشعراء العرب في التعبير عما يقاسيه الشعب السوري من بطش الاحتلال ، وبشروا بدورهم بتتويج نضال الشعب السوري بتحقيق الاستقلال والحرية ومن أشهر القصائد العربية قصيدة احمد شوقي التي ألقاها في حشد جماهيري في القاهرة عقد للتنديد بجرائم الاحتلال وتنبيه العالم للمحنة التي يمر بها أشقاؤهم ، ومما جاء في قصيدة أمير الشعراء : سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ … وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا … وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ … بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ جَزاكُمْ ذو الجَلالِ بَني دِمَشقٍ … وَعِزُّ الشَرقِ أَوَّلُهُ دِمَشقُ و جاء بعد نضال متواصل بذل فيه شعبنا الأرواح رخيصة في سبيل الوطن،وهكذا استذكر الشعراء في قصائد الجلاء أولئك المناضلين الذين صنعوا الجلاء بدمائهم ولولا تلك الدماء الزكية لم يكن للأجيال أن تنعم بالاستقلال والحرية ،وتعتبر قصيدة ( عروس المجد ) خير نموذج لتلك القصائد وقد ألقاها عمر أبو ريشة في احتفال مدينة حلب في السابع عشر من نيسان 1946 ومما جاء فيها: يا عروس المجد تيهي واسحبي … فـي مـغانينا ذيـول الـشهب لـن تـرى حـفنة رمل فوقها … لـم تـعطر بدما حـر أبـيّ ويشير أبو ريشة إلى دماء الشهداء الزكية التي خضبت الأرض لتحقيق النصر فيقول : يـا عروس المجد طال الملتقى … بـعدما طـال جوى المغترب قـد عـرفنا مـهرك الغالي فلم … نـرخص الـمهر ولم نحتسب وأرقـنـاها دمــاء حــرة … فاغرفي ما شئت منها واشربي وقد توافقت قرائح الشعراء في استذكار المجاهدين وهم في قمة الفرح بتحقيق الجلاء وكان هذا الشعور في قلوب جميع السوريين ،وصاغ شفيق جبري شعرا هذه الأحاسيس والعواطف الجياشة عندما قال : قد يجمد الدمع إلا في مآقينا … ويبرد الجرح إلا في حواشينا هبت دمشق لدفع الضيم فانكفأت … ولهى تجر الأسى شملا أيامينا يوم الجلاء فما أبقيت من شجن … في مصر والشام تلفيه وتلفينا وجبري هو شاعر الشام كما كانوا يطلقون عليه وهو صاحب القصيدة الشهيرة التي عبرت عن فرح الشعب بعيد الجلاء،ذلك الشعب التي لم ينم على الضيم وناضل حتى حقق الانتصار فيقول: حلم على جنبات الشام أم عيد؟ …لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد أتكذب العين والرايات خافقة …أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد ما نامت الشام عن ثأر تبيته … هيهات ما نومها في الثأر معهود ونحن نتحدث عن قصائد الجلاء لا نستطيع إلإ أن نذكر قصيدة شاعر العاصي بدر الدين الحامد، فلا نزال نرددها حتى الآن بطرب وغوص في معانيها لأنها كانت ولا تزال قصيدة مؤثرة ذات إيقاعات حماسية كتبت بلغة رشيقة جميلة يقول بدر الدين الحامد : يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها … لنا ابتهاج وللباغين إرغام يا راقداً في روابي ميسلون أفق … جلت فرنسا فما في الدار هضام لقد ثأرنا وألقينا السواد وإن … مرت على الليث أيام وأعوام ومن القصائد الجميلة المعبرة عن أهمية الجلاء والتي تكاد أن تكون منسية قصيدة الشاعر عدنان قيطاز، وقد ألقاها في الاحتفال بالذكرى العشرين للجلاء وأجمل ما فيها خاتمتها التي شبه فيها الشاعر الدم بالختم الذي يصادق على الصكوك فيقول : لهب الثورة من أعماقنا … يصرع الباغي ويردي العملاء نحن أجلينا فرنسا عنوة … ومهرنا بالدم الحر الجلاء ويفرض الشاعر بدوي الجبل نفسه بقوة في مثل هذا الموضع ،وله عدة قصائد ، وكانت أكثرها شهرة القصيدة التي يقول في مطلعها الزغاريد فقد جن الإباء، وقول في خاتمتها : كتب الله لك النّصر به … فعلى الظلاّم و الظلم العفاء الغد الميمون في الدنيا لكم … فاقتحم يا جيش واخفق يا لواء ومن قصائده القوية في الجلاء قصيدة جلونا الفاتحين وفيها يقول بدوي الجبل: جلونا الفاتحين فلا غدوّاً … نرى للفاتحين و لا رواحا إذا انفصلت أسنّتنا وصلنا … بأيدينا الأسنّة والصفاحا إذا خرس الفصيح فقد لقينا … من النيران ألسنة فصاحا زماجر دكّت الطّغيان دكّاً … و أخرست الزلازل و الرّياحا لقد خلد الشعراء العرب يوم الجلاء الأغر بقصائدهم ، فخلدت به القصائد حيث لا نزال نستذكرها ونرددها مع كل ذكرى لجلاء المستعمر عن ارض الوطن
Views: 1