- لبنى شاكر
طويلاً رافقه هاجسُ الاشتغال على سطح اللوحة، حتى طغى هذه المرة على النحت، بعيداً -إن صح القول- عما قدمه فؤاد دحدوح في معارض سابقة، دمج فيها بين النوعين، هكذا انحاز التشكيلي في معرضه الحالي في «غاليري كامل» نحو صياغات جديدة للأشكال المرئية، غابت عنها محددات الجسد والهيئة الإنسانية، مقابل مقدرة لونية حولتها إلى تجريدٍ بسيط المفردة ومرن التفصيل.
يصعب البحث في مسميات واضحة لتجربة دحدوح، رغم عدم التزامه بإحداها كلياً، فما بين التنويع تقنياً وفنياً، لم يتردد في التجريب يوماً، ربما كانت لذلك مسوغات، كونه يرى في فن ما بعد الحداثة، رفضاً لفرز بين الأنواع الفنية، والجميل في الأمر توظيف الفن بكل جوانبه لتقديم عمل مقبول عند المتلقي، يستحوذ اهتمامه ويدفعه نحو حوارية مطولة مع الحالة في اللوحة أو المنحوتة.
تتقارب شخوص التشكيلي وتتحد أحياناً، باحثةً عن ملجأ في الانحناء واللون، حتى لنراها جزءاً من خلفية اللوحة أو بعداً من أبعادها، مفضلةً الاختباء في ظل الجماعة، حيث لا مكان للفرد من دون الآخر، ولأن الخوف يعتريها من مجهول ما، فهي تفضل أيضاً الاستغناء عن أي ملمح يكشف غموضها، فلا مكان لهوية أو بيئة أو تعبير ما.. حتى لا إشارة لأنوثةٍ أو سواها.
أيضاً تظهر في معرضه وجوهٌ مستديرة مدهوشة ومشوّهة أحياناً، وزّعها الفنان بوضعيات تعكس حالات إنسانية متأرجحة بين الخوف والخواء والحزن، تقترب أحياناً من اختناق الحصار، تؤديها هيئات إنسانيّة مؤطرة أو مركونة في فراغ رحب ومفتوح، كل ذلك مشغول في تداخلات لونية مشبعة بالضوء.
محاكاة البساطة الجسدية للشخوص، جاءت بموازاة مرونة فكرية للحكاية المشهود عليها في اللوحات، عبر مزيج من الفرح والحزن، في دراما مبنية على توازنات بين «اللون والشكل، الفراغ، المساحة، الضوء، الظل»، والسطوع اللوني الباهر، بشكل يبرز تكثيف اللون المستوحى من فواتح لونية، لتظهر برقة تركيبية تسيطر على الخطوط وأبعادها، حيث تأخذنا اللونية إلى عوالم التصوير التعبيري، وتدفعنا إلى التخيل والتأمل.
حاول التشكيلي أن يجعل من البدائية في كل شيء أصلاً لأعماله، حتى أنه استخدم ألواناً بِكْراً، كما أسماها، وجدت طريقها إلى القماش مباشرة، من دون أي فعل سابق قد يغير فيها، ثم كانت الفطرة الأولى للإنسان الكائن في لوحاته احتمالاً افتراضياً له، كوّنته بهيئة بسيطة انسيابية، كأنه كان كذلك قبل أن تطاله الآلام من حوله، حتى صار المشهد مكتملاً قريباً من البدايات الأولى للبشر والأرض.
الغنائية السابقة امتلكت قدرة الإيحاء بأجواء دافئة، وهنا السرّ برأيه، فبقدر ما يستطيع أحدُنا الانفصام عن الحالة المأساوية ليعبّر عنها بطريقة جميلة، تشرّع نافذة أملٍ جديدة للناس من حوله، يصح أن نصفه بالمتفائل، فليس بالضرورة أن نصور المأساة بطريقة فجة، أو أن نعبر عن الألم بألم آخر، يمكن لنا البحث عن طرق مختلفة لنبوح بأوجاعنا. يبدو أن الطريقة التي اختارها التشكيلي تؤمن باحتمال الألم لجمالية ما، تلك التي نشعر بها بعد بكاء مرير أو حينما نعود لممارسة حياتنا بعد فقدان أحدهم، وليست الغاية هنا التكيف مع الفوضى العامة أو التسليم بأن قدر البشر واحد محتوم، بل العودة نحو الخلق الأول، في عذوبة اكتشافه لكل ما حوله، إيمانه بأن الآخر يشبهه حتى لو كان يجهل اسمه أو طريقة تفكيره، والقدرة على الحوار دوماً، لذا كان لشخوصه تقارب يفوق اختلافها، حتى يظن المتفرج أنها متشابهة، والأهم ربما أن ثمة شيئاً يفوق الاختلاف والتشابه أهمية، هو المشاعر الكامنة دوماً في الدواخل، مهما أبعدتها قسوة ما حولنا.
تصوير: طارق الحسنية
Views: 1