- بديع منير صنيج
أن ترى ممثلاً محترفاً يؤدي شخصية يعاني صاحبها من «متلازمة داون» فهذا أمر طبيعي، رغم ما يعنيه من صعوبات في التجسيد، وضرورة البحث عن مُعادلات حركية، ونُطقية، ودراسة لردود الفعل تجاه مختلف الظروف، وما إلى هنالك، لكن أن يكون الممثل مصاباً بتلك المتلازمة، ويستطيع أمام الكاميرا أن يتجرَّع كأس التمثيل بهذه البراعة في التقمُّص تجاه شخصية سينمائية، مُستزيداً من ذاته بالدرجة الأولى، فأقل ما يُقال عن ذلك بأنه حالة استثنائية، وهنا يكمن الاختلاف الآسر الذي تابعناه في فيلم «عرائس السُّكَّر» تأليف ديانا فارس وإخراج سهير سرميني وإنتاج المؤسسة العامة للسينما. والقصة لا تتوقف عند ذلك، فعندما نتلمَّس الألق الذي حققته الطفلة «مروة الجابي» بطلة الفيلم في فهمها لفن التمثيل، وعلاقتها بالممثل الشريك، ولظرف كل مشهد وكل لقطة، بما جعلها تؤدي المطلوب منها بشكل يُقارب النسبة التامة، فهذا يدل على الجهد المُضاعف الذي بذلته «سرميني» لتطويع كاميرتها في رصد أدق التفاصيل الدرامية في حياة فتاة تُعاني من متلازمة داون، وتتعقَّد شخصيتها على المستوى الجسدي والنفسي والإدراكي… بسبب مُتغيِّرات البلوغ التي طَبَعت الكثير من تصرُّفاتها، وزادت من معاناتها، وصعَّبت عليها الاندماج في المجتمع.
بكل تأكيد لم تتحرر «مروة» من تصرُّفاتها وسلوكها اليومي فيما قدَّمته أمام الكاميرا، لكنها في الوقت ذاته، قدَّمته بمواربة حسَّاسة لطبيعة الشخصية التي تُجسِّدها، وبمستوى عال من الانغماس في عوالِمِها والظروف التي مرَّت فيها، والتي تعقَّدت رويداً رويداً لتصل إلى ذروة معاناتها في هذا الفيلم بوفاة «أمها.. سلمى المصري» بعد أن كانت السند الحقيقي لابنتها المريضة، والدَّاعم الأساس لها في المنزل والمدرسة والشارع، فإلى جانب مُتطلَّباتها الخاصة، جاءت التغيرات الفيزيولوجية التي أصابتها، فجعلتها تُغيِّر رؤيتها تجاه وجودها بالدرجة الأولى، ونحو معنى الألم الذي بات يُصيبها ولا تعرف مغزاه، وهو ما تجسَّد ببلاغة لا مثيل لها من قبل الطفلة «مروة»، ووصلت إحدى ذراه في مشهد الاعتداء عليها من قبل العامل في قبو البناية، ثم بعد وفاة والدتها وإقناعها من قبل «أختها.. لمى إبراهيم» بأن غيابها لن يطول، ليتكثَّف الحضور البلاغي للغياب في تصرُّفات الطفلة، وإصرارها على الإصغاء لصوت أمِّها وصورتها الحاضرين دائماً في وجدانها، واستنطاق لعبة «الحصان الهزَّاز» كشاهدٍ آخر وفي على الفقدان، وهو ما سيتعزز درامياً كثقل آخر يُضاف إلى كاهل «مروة» بعدما باتت مسؤولة عن انخراطها في «مجتمع بديل»، غير الذي تربَّت فيه، ولاسيما عندما قرر أخوها الذي يعمل في إحدى الدول العربية، وأختها المتزوجة من «رجل أرمل.. عدنان أبو الشامات» يخشى أن يُنجِب منها ابناً شبيهاً بحالة «مروة»، أن يضعاها في ملجأ للأيتام في ظل عدم إمكانهما رعايتها.
شخصية مُركَّبة عايشت تفاصيلها الممثلة الطفلة «الجابي» ببهاء، ساندها في ذلك النص الذي كتبته «ديانا فارس» وكان حسَّاساً للمتغيرات التي أصابت بطلته، لولا بعض المُباشرة في بداية الفيلم، أما ما عدا ذلك فجاء التصعيد مُحكماً وغاية في الدِّقة، خاصةً ما يتعلَّق باللمسات الإنسانية لتغيير الأم رأيها باستئصال رحم طفلتها البالغة حديثاً، وذلك في اللحظات الأخيرة بعد أن أوصلتها «الداية.. غادة بشور» إلى غرفة عمليات ميدانية في إحدى المناطق الريفية النائية، إلى جانب العلاقة الشفافية لـ«المصورة الفوتوغرافية.. نجلاء الخمري» وحبيبها «الصيدلاني.. سامر كابرو» مع تلك الطفلة ومساندتهما لها ولوالدتها في إدخال مزيد من الفرح والحب إلى قلبيهما، وحماية «مروة» من أي عُنف قد يُمارس عليها، حتى لو كان لفظياً، ومصدره أخوها، مروراً بتحوُّلها إلى شخص مرغوب و«مُبارك» في الكنيسة، وليس انتهاءً برمزية خواء البيت المستأجر من أغراضه، بعد أن تركتها الأيام من دون عاطفة الأم الراحلة وروحها المُعششة في تفاصيله، إيذاناً ببداية حياة جديدة، تزيد من قسوة وخصوصية يوميات تلك الطفلة ذات الاحتياجات الخاصة.
هواجس وحالات إنسانية خاصة رصدتها كاميرا «سرميني» بلُطْف بليغ جاعلةً من الطفلة «مروى» اكتشافاً سينمائياً، لا يدعو فقط إلى إدماج ذوي الاحتياجات الخاصة ضمن المجتمع، بل يتعداه إلى أهمية مشاركتهم في صياغات إبداعية لاحقة، وتحقيق نتائج باهرة على مستوى عالٍ من الإتقان، برزت في شارة الختام عندما حققت شخصية «مروة» معرضها الشخصي الأول كمصورة ضوئية حساسية لوحاتها للأمل بالغة، وهو ما يجعل من «عرائس السكر» وثيقة إبداعية تربوية ينبغي تعميمها.
bsanij@yahoo.com
Views: 0