سناء هاشم
«سهل العمق وتنقيبات جنديرس 2006-2011» هو عنوان الكتاب الجديد الصادر مؤخراً عن المديرية العامة للآثار والمتاحف والهيئة العامة السورية للكتاب، للباحث الأثري الدكتور عمار عبد الرحمن، والذي حاول من خلاله وضع القارئ في السياق التاريخي لموقع سهل العمق خلال العصور القديمة والكلاسيكية، منوهاً بأن السهل لم يحظَ بالدراسات وعمليات التحري الأثرية التي تميط اللثام عن مدى أهميته، على الرغم من أهمية وغزارة مواقعه.
يشير الدكتور عبد الرحمن في كتابه، الذي يقع في 100 صفحة من القطع الكبير، إلى أن سهل العمق يتموضع في الشمال الغربي من سورية، ويتمتع بموقع جغرافي استراتيجي شهد أحداثاً مهمة خلال العصور التاريخية القديمة وحتى العصور الكلاسيكية، وقد بين المسح الأثري الذي قام به عالم الآثار الأمريكي، البروفيسور روبرت بريدوود، وجود استيطان أقدم، إذ كشف عن العديد من المواقع التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. وانطلاقاً من ذلك، وقع اختياره على تل جنديرس، إذ من المتوقع أن يضيف معلومات عن العصر الحديدي، كما من المرجح أن يؤكد مطابقة الموقع مع المدينة القديمة «كينالوا» في العصر الآشوري الحديث، والتي سبق أن ورد ذكرها في النصوص الآشورية. كما أن الموقع سبق أن استوطن خلال العصر البرونزي الوسيط، على الأقل، وإذا ما تأكد أن مساحة سطح التل تبلغ نحو 14 هكتاراً، فمن المتوقع أن يكون مركزاً رئيساً خلال الألف الثاني قبل الميلاد.
ومن الواضح أن الاستيطان الكلاسيكي على سطح التل كان واسعاً وكثيفاً، وأن اسمه الكلاسيكي المتعارف به عليه «جنداروس»، مازال مستخدماً حتى اليوم بصيغة «جنديرس».
ولقد أسهمت المعطيات السابقة في اختيار موقع التل للعمل والتحري في مكنوناته، وأورد الكاتب نتائج أعمال البعثة السورية في المرتفع الغربي من التل، حيث تم توثيق الطبقات الكلاسيكية فقط، مؤكداً عزمه على عرض الطبقات الأقدم من العصور التاريخية القديمة، عبر إصدار آخر، عند الانتهاء من الأعمال الميدانية.
وتناول الكاتب التنقيبات التي أفضت إلى العثور على الكثير من اللقى الأثرية المتباينة الأنواع والأشكال في تل جنديرس، رغم أن الفخار يبقى العنصر السائد بينها، إذ تم الكشف عن الآلاف من الأواني والكسر من مختلف الطبقات الأثرية (أوان فخارية، أكواب، قدور، جرار، إضافة إلى أشكال مختلفة من الفخار). كما لفت أيضاً إلى وجود الأختام التي تعدّ اختراعاً قديماً نشأ في المشرق العربي القديم وبلاد الرافدين للدلالة على ملكية البضائع المرسلة. وقد استمر هذا التقليد في العصور الكلاسيكية، وكانت الأمفورات تختم في العصر الهلنستي على العرى، وحملت طبعات هذه الأختام اسم الصانع، وأحياناً مكان التصنيع وزمانه، وقد اصطلح على إيراد رمز للدلالة على مكان الإنتاج.
وتشير الملامح العامة لجنديرس خلال الفترات الكلاسيكية الأربع (الهلنستية، الرومانية، البارثية، البيزنطية)، وما أورده الكاتب من معلومات تاريخية، إضافة إلى ما تم الكشف عنه من عمارة ولقى أثرية، إلى أن الموقع أنشىء في العصر الكلاسيكي مع قدوم الاسكندر واستقرار السلوقيين في المنطقة، كما أن فترة الاستيطان البارثي في الموقع ماثلة من خلال الكثير من الدمى التي تجسد الفارس البارثي الممتطي حصانه.
أما الاستيطان الروماني والبيزنطي، فقد تميز بعمارة متقنة، وإن كانت غير فخمة، أو تدل على الرفاه المبالغ به، بل إنها أحياناً تبدو أقل من عادية. وقد كانت السوية الرومانية عمارة تدل على أنها مؤقتة، وهذا ما يؤكد دور جنديرس في ذلك الوقت كحامية عسكرية يتعين عليها السيطرة على المحيط، وتأمين الحماية للخطوط التجارية من الداخل إلى الساحل عبر الفرات.
Discussion about this post