- لبنى شاكر
البحث عن المتاعب، لا يترافق بالمتعة دوماً، يمكن لأي صحفي تأكيد ذلك، ولا مبالغة في القول إن المهنة التي أعطت الكثيرين شهرة وتميزاً، كانت تقتنص من ذواتهم وحياتهم، ومع ذلك كثيراً ما كانت دافعاً لمجرد العمل في الإعلام.
سابقاً كان للبعض وجهة نظر مختلفة، ربما لم يفكر أولئك الذين جمعهم استديو صغير عام 1960 بما سبق، كان عليهم أن يعلنوا انطلاقة البث التلفزيوني، هنا سمع السوريون صوته أول مرة «من دمشق.. التلفزيون العربي السوري». سرعان ما صار مروان شاهين وجهاً معروفاً، فهو أول من قدم نشرة إخبارية سورية، تتالت بعدها برامجه إعداداً وتقديماً، إلى جانب اهتماماته التشكيلية.
العودة باتجاه بدايات الإعلام المرئي السوري، قادرة دائماً على إثارة تساؤلات كثيرة، استطاعت مديرية ثقافة دمشق هذه المرة، دفعنا للتفكير فيها مجدداً والمقارنة إن صح التعبير بين تلك الأيام وما نعيشه اليوم، ليس لغاية التقييم أو المفاضلة، بل بحثاً فيما هو أعمق، كان ذلك عبر تكريمها مروان شاهين في المركز الثقافي بـ«أبو رمانة»، بعد أن فضّل الرجل الابتعاد عن المقابلات والظهور الإعلامي، وقد شارك «نادي شام للقراء» أيضاً في الفكرة التي دفعت محبي المذيع المعروف والراغبين بالاستماع إلى تاريخ الإعلام السوري للحضور.
جاء التكريم عبر شهادات وآراء لإعلاميين وأدباء، إضافة إلى عرض مقتطفات من فيلم «يحدّثونك من القلب»، وهو جزء من سلسلة أفلام وثائقية تسجيلية، أعدها الباحث غسان كلاس مع مجموعة من العاملين في قناة «نور الشام» الفضائية، ويمكن للراغبين ترقبها على الشاشة عدا كونها متاحة في يوتيوب للجميع.
بدأ الفيلم بعزف لشاهين على العود، وهو ما لا يعرفه عدد من جمهوره عنه، مع عرض لبداياته الإعلامية حيث شكلت إذاعة دمشق مع التلفزيون السوري، مكاناً احتضن مجموعة من المبدعين، كانت بصماتهم واضحة فيما قدموه من برامج، في ظروف لم تكن سهلة، وكان شاهين واحداً منهم.
استطاع الإعلامي بدأبه ومثابرته أن يضع بصمات واضحة في المناصب التي تقلدها، سواء في الإعلام أو التعليم أو الفن. إذ تهيأت له في طفولته ظروف ساعدته، يقول عنها: أخذني عمي مرة لأشاهد ثوار مدينتنا حمص يقاتلون الفرنسيين، كان عمري 6 سنوات وقتها لكنني لم أنسَ هذا المشهد طوال حياتي، جعلني أشعر بوجود المحتل بيننا، أيضاً ساعدتني البيئة حولي لأفهم أموراً كثيرة، منها علاقتي بأخوالي آل السباعي، أحدهم كان قاضياً ونائباً في المجلس النيابي، ثم صار وزيراً، كنا نشعر معه بما يخوضه سياسياً، الآخر كان أديباً، أما مراد السباعي فكان أكثرهم شهرة، قاصاً ومسرحياً وموسيقياً، تأثرت به، فهو من علمني عزف العود، حتى إنني قلدته وكتبت مسرحية يوم كان عمري 12 سنة، كل هذا عرفني بالثقافة والسياسة، عبر هموم الوطن والشأن العام.
لاحقاً درس شاهين الفلسفة، وكان له حظ وافر بأن دّرسته مجموعة من الأسماء الكبيرة في مجالات مختلفة منها: أمجد الطرابلسي، سعيد الأفغاني، عادل عوا، بديع الكسم، لكن أكثرهم تأثيراً فيه كان عبد الكريم اليافي.. واللافت أن شاهين دخل الإذاعة عن طريق مسابقة كانت مخصصة لأصحاب الشهادات العليا، ولم يكن العمل الإعلامي في ذهنه.
يضيف: نُدبت للتلفزيون المصري بداية، وكانت التحضيرات جارية لنظيره السوري، كان هذا مذهلاً في تلك الأيام، ومع قرب الافتتاح، أُرسلت إلى دمشق، وهيأ لنا مدير الإدارة في تلك المرحلة تيسير الحلبي مبنى في الأزبكية، كنا مضطرين للإقلاع بالبث يوم 23 تموز 1960. التقيت مع الأستاذ صباح قباني هناك أول مرة، حيث اختير مديراً للتلفزيون مع إنشائه، وأرادني أن أكون أول مذيع للأخبار، عملنا كثيراً حينذاك، وكان الأهم تدريب الموظفين الجدد.
قدّم شاهين أول برنامج ظهر على شاشة التلفزيون السوري «هذا الأسبوع» ثقافي متنوع، ثم برنامج «ندوة الأسبوع» محاورات مع الأدباء والمثقفين، بالطبع كانت هناك برامج أخرى لزملائه منها «البيت السعيد» للمذيعة المعروفة ناديا الغزي، وبدأت مسيرة طويلة. يعلّق شاهين: أذكر النشاطات الأولى للثنائي «دريد ونهاد« في الاستديو الصغير، كنا نحب العمل، يمكنني القول إن سبب ذلك النجاح كان الراحل صباح قباني، لم يكن للتلفزيون أن ينجح في تلك الفترة، بوجود رجل غيره، فهو صاحب خبرات متنوعة وثقافة كبيرة ساعدته ليضع الرجل المناسب في مكانه.
أهم المقابلات التي أجراها شاهين، والتي شكلت بصمة في مسيرته الإعلامية، حواره مع بشارة الخوري «الأخطل الصغير» في منتصف الستينيات، وعلى صعيد المناصب كان تسلمه إدارة مكتب وكالة الأنباء السورية «سانا» في روما، بتكليف من وزير الإعلام الراحل أحمد اسكندر أحمد، نقطة مهمة.
الإعلامي محمد قطان وجد في تكريم زميله، فرصة لاستعادة ذكريات عن إذاعة دمشق، ففي بداياتها كانت غرفة في الهاتف الآلي بشارع النصر، ثم انتقلت إلى ساحة النجمة عام 1941، على رأسها في تلك المرحلة الأمير يحيى الشهابي الذي آثر الابتعاد عنها لشعوره بأنها قد تكون تحت الانتداب الفرنسي، وأشيع يومها كلام عن اغتياله، إلى أن ظهر في إذاعة دمشق مجدداً بشارع بغداد، وتحدث منها في 17 نيسان عام 1947 ، قبيل انتقالها إلى شارع النصر.
قبل أن يعمل قطان مذيعاً، كان هو وزملاؤه في ثانوية تجهيز البنين الأولى «خلدون المالح، نادر قباني، غازي الخالدي، أحمد أصيل»، يستمعون إلى شاهين، ورفاقه الذين واكبوا الاستقلال عادل خياطة، عبد الهادي البكار، فؤاد شحادة، هائل اليوسفي، صباح قباني، محمود الخاني، فردوس حيدر صاحبة برنامج «ما يطلبه المستمعون».
يضيف قطان: اختارني الشهابي مذيعاً للبرامج الموجهة إلى أمريكا الجنوبية، في تلك المرحلة، كان شاهين رائداً من رواد أقدم التلفزيونات في المنطقة «التلفزيون العربي السوري»، ومنذ انبلاج صورته الأولى من جبل قاسيون، كان واحداً ممن قادوا العمل الدقيق والمنظم في مرحلة مهمة وصعبة، فالرواد ومنذ الدقائق الأولى لظهور أول صورة تلفزيونية أرادوا أن يكون العمل متقناً جميلاً رغم قلة الإمكانات في تلك المرحلة، مجرد أستديو متواضع في أعلى قمة جبل قاسيون، حتى إن الصحافة العربية وصفت التلفزيون السوري آنذاك بالمعجزة، فعلاً يوم كان شاهين مذيعاً، كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، يشار إليه بالبنان، كإعلامي متفرد بحضوره وصوته وأدائه في تقديم النشرة الإخبارية، وغيرها من برامج «سياسية، ثقافية، فنية».
تشكيلياً استفاد شاهين من قراءاته تراجم الفنانين التشكيليين الكبار، وكان تأثره بالغاً بـ«فان غوخ»، برع في رسم البورتريه، وبرزت في أعماله «الزيتية، المائية، الباستيل»، ساعده في إبداعاته مخزون معرفي مهم، وإحساس بعلم الجمال وتاريخ الفن. وكما بين الفيلم، كان التشكيل ومازال هاجسه حتى إنه عدّه قاسماً مشتركاً، سبق أحياناً انشغالاته الأخرى. كان معرضه الأول عام 1961 برعاية وزارة الثقافة، والثاني 1962 برعاية خالد بك العضم، يقول شاهين: أذكر أنني زرته وعرضت عليه فكرة إقامة معرض برعايته، قال لي: «أعرف أنك تعمل في التلفزيون لكن فنياً!»، أظنه كان متردداً بالنسبة لمستوى عملي، وقبل أن يجيبني اتصل بـمدير الآثار سليم عادل عبد الحق، سأله عني فزكّاني وعدّني بمنزلة ميشيل كرشة، ما شجعه على رعاية معرضي، وأوصاني أن اختار صالة للعرض من دون درج، كي يستطيع الحضور، وفي الافتتاح كتب لي: أعجبني المعرض بما فيه من بدائع لكنني شخصياً أحب الكلاسيكي، الفن قد لا يتقبله زمن ما، ربما تتقبله أجيال أخرى، وكان معرضي الثالث عام 1966 في الكونغو، حيث عملت مدرساً للفلسفة، لفتت نظري الألوان والطبيعة هناك، فرسمت أجمل لوحاتي.
الناقد التشكيلي سعد القاسم تمنى لو رافق التكريم، معرض تشكيلي، للاطلاع والحديث عن تجربة شاهين بشكل أفضل منوهاً بأنه علّم نفسه بنفسه، مستفيداً من تجربة شخصية، وهذا ليس تقليلاً من شأن تجربته بل دليل وجود موهبة حقيقية وحس عال.
أما أهمية تجربته الفنية فهي برأي القاسم: الحساسة العالية تجاه اللون والمشهد الطبيعي عموماً، بلغت أعلى قممها في «الكونغو» إذ إن مجموعة أعماله هناك تسجل كأعمال نادرة ومميزة في الحياة التشكيلية السورية، لكونها تتيح لنا معرفة كيف يمكن للعين السورية رؤية المشهد في مكان آخر.
كثرت الشهادات في تكريم مروان شاهين، والدعوات لإعلاميي اليوم بأن يعيدوا النظر في أسلوب تقديمهم وكتابتهم، فالأسماء الأولى بذلت جهداً لا يستهان به، ولا مبرر لتجاهل لذلك، ورغم اختلاف الزمن والأدوات إلا أن احترام المتلقي وفهم احتياجاته لا يقبل المواربة أبداً.
تصوير: محمد فندي
Views: 1