- د. محمود شاهين
خلال ما يربو على ثلاثة عقود من الزمن، دأبنا في صحيفة «تشرين» على لفت انتباه المعنيين في مجالس المدن والبلدات، ودوائر التخطيط والتنظيم العمراني، ومكاتب المهندسين المدنيين والعمرانيين ومساعديهم، والكليات التي تقوم بتأهيلهم وتدريبهم، وغيرها من الجهات السوريّة الرسميّة والخاصة، التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة، بتصميم المنشأة المعماريّة السكنيّة والخدميّة، وطريقة توزيعها ضمن فضاء المدن والبلدات السوريّة، إلى ضرورة ربط الفن التشكيلي (بأجناسه المختلفة)، بالعمارة وتنظيم المدن، لمقدرته على منحها لمسة جماليّة وتنظيميّة، ترتقي بالشوارع والطرقات والساحات والأسواق والمحطات، من مجرد أماكن للعبور والانتظار والحركة، إلى فضاء اجتماعي، ومكان للتواصل بين السكان القاطنين في شارع واحد، أو حي، أو حارة، أو العابرين فيها، أو المنتظرين وسيلة تقلهم إلى عملهم، أو سكنهم، أو مدنهم وبلداتهم. مكان يُريح بصرهم، ويُحرك بصائرهم، ويُقوي علاقتهم بعضهم ببعضهم الآخر، ويُكرّس ارتباطهم بأرضهم ووطنهم وانتماءهم له، ويدفعهم للحفاظ على مفردات هذا الفضاء، وصونها، والمساهمة في البحث عن المزيد من المفردات والمظاهر التي تزيد من جمالية هذا الفضاء، لكن للأسف الشديد، قلة قليلة فقط (منها بلدة دير عطية) استجابت لدعواتنا المتكررة، بالاهتمام بفرش الشارع السوري المتمثل بالمقاعد، ومواقف الباصات، ولوحات الإعلان، والأعمال الفنيّة المجسمة والمسطحة، الاعتباريّة والتزيينيّة، وسلال المهملات، وبقية مفردات وعناصر أثاث الشارع التي باتت، اليوم، محط اهتمام شديد، في الدول المتحضرة التي تحترم مواطنها وتقدره، وتعمل على توفير مستلزمات الحياة الكريمة والجميلة له.
ليس هذا فحسب، فهناك اليوم من يتحدث عن الأرصفة الذكيّة، أو الأرصفة التفاعليّة التي ستحوّل شوارع العالم إلى منصّات معلوماتيّة متكاملة، وذلك من خلال ظاهرة تعبيد الأرصفة والشوارع بنظام تشغيل يُدعى Via Cities Os حيث يحتوي على أجهزة استشعار وتطبيقات مختلفة، تتيح للسكان الولوج إلى تلك الأنظمة واستخدامها عبر هواتفهم المحمولة، أو الحواسيب اللوحيّة.
من جانب آخر، ولكي تُثمر عملية توظيف الفن في الشارع، لا بد للفنان-المصمِّم صاحب المداخلة، من أن يفهم بعمق، مجموعة من العناصر والأسس أهمها: الوظيفة لهذه المداخلة، المواد المستعملة فيها، ومكان هذا الاستخدام، ذلك لأن للمداخلة دوراً جمالياً، وآخر وظيفياً.
بمعنى أن على مفروشات الشارع التأقلم مع حجم الإنسان، وعوامل الجو المختلفة، فالإنسان يحصل على المتعة الجماليّة من خلال إشباع حاجاته الفطريّة، الأمر الذي يجعل من مكوّنات المكان، وتناسق عناصره، المنصة الأساس لنهوض وتكوّن الرؤية الجماليّة، إضافة إلى التصميم، والمواد، والاختيار الصحيح للمكان الذي ستجري فيه المداخلة الفنيّة، لهذا لم نعد نرى تزايداً في الأعمال الفنيّة الكبيرة والعالية، المجسدة للقديسين والأباطرة والعظماء من رجال الأدب والفن والسياسة، وإنما أصبح يُستعاض عنها بأعمال مختلفة الموضوعات والطروحات الاعتباريّة والجماليّة، حيث تقتصر على القضايا التي تلامس حياة وهمّ المواطن البسيط، القاطن إلى جوار المداخلة الفنيّة، أو العابر بها. أي على هذه المداخلة الفنيّة الشارعيّة، التعبير عن هواجس الناس وأفكارهم، ولاسيّما أنها تسكن قريباً منهم، وتطالع أبصارهم بشكل دائم.
لنجاح هذه المداخلة، وضمان مخرجات سليمة ومؤثرة لها، لا بد من أن يُساهم في إنجازها فريق عمل متكامل ومنسجم، يضم الاختصاصات كلها: الإنشائيّة، المعماريّة، الفنيّة، والحرفيّة. فقد أثبتت الوقائع تعثر وفشل المشاريع التي تتفرد بتنفيذها جهة واحدة، كأن يأخذ المهندس المدني الإنشائي دور مهندس العمارة والفنان التشكيلي، في تصميم وتنفيذ المنشأة المعماريّة السكنيّة أو الخدميّة، بهدف الفوز بأكبر قدر ممكن من الأرباح، وهذا ما يفضي إلى عمارة فجة، خالية من اللمسة الجماليّة الضروريّة، خاصة أنها تطالع أبصار الناس بشكل يومي، ويمكنها من خلال الاحتكاك اليومي بها، تنمية وتطوير ذائقتهم البصريّ الجماليّة.
على هذا الأساس، يجب أن يساهم المهندس المدني الإنشائي، ومهندس العمارة، والفنان التشكيلي، والمختص بزراعة الأشجار والنباتات، في وضع تصاميم المنشأة المعماريّة، والفضاء المحيط بها، وكذلك فرش الشارع المتمثل بالمقاعد، ومواقف الباصات، ولوحات الإعلان الثابتة والمتحركة، وسلال المهملات، ولوحات الدلالة، والآرمات، والأعمال الفنيّة الاعتباريّة والجماليّة، المجسمة، والنافرة، واللوحات الجداريّة الملوّنة، وأجهزة الإنارة، والبحيرات التزيينيّة، ومناهل المياه…وغيرها، إذا كنا نريد حقاً، إعادة إعمار سوريّة بالشكل الصحيح والسليم، وتالياً الارتقاء بشارعنا السوري، من مكان للعبور، إلى فضاء اجتماعي تواصلي.
كما يجب إشراك الفئات الاجتماعيّة كلها، في طرح رؤاها ومفاهيمها، حول شكل وماهيّة البناء والمكان، الذي ستعيش وتعمل فيه، وليس فرض الجاهز والمستورد، من التصاميم المعماريّة والتنظيميّة الهجينة والغريبة والملفقة، على ناس لهم خصوصيّة اجتماعيّة، وعادات وتقاليد ومفاهيم ورؤى جماليّة، يجب أخذها بالحسبان، في تصميم وإنجاز كل تجمع سكني جديد، أو إعادة إعمار سكن مدمر، وهي فرصة قد لا تتكرر أبداً، لذلك يجب الوقوف عندها مطولاً، إذا كنا حقاً جادّين، في إزالة البشاعة عن عمارتنا الحديثة، وربطها ببيئتها، وبالمفاهيم الجماليّة والاجتماعيّة لإنساننا المعني بها.
Views: 1