دمشق بين الحلم الجميل والواقع القاسي
عفاف يحيى الشب
تعالي يا دمشق أيتها الحسناء الفيحاء الورقاء المعطاء وموئل الرجاء، يا حكاية من رخاء وقصيدة بهاء، يا خمائل وفاء وروابي من سخاء، يا معاقل النور ومجمع الثقافات والعلوم، ويا ملتقى الأدباء والشعراء.
تعالي إلينا أيتها المدينة الشهية الندية العابقة بروائح الصمود والتضحيات الأبية، تعالي وحدثينا يا أم المدائن القديمة الأسطورية وقمر العواصم الحديثة الخيالية، تعالي وحدثينا بلا خجل ولا حياء فمثلك لا يهان فيها تاريخ ولا يطيب للمجد إلا الاستراحة بين حنايا أيامها الوارفات ولياليها الباسقات إلى الأحلام المجيدات حيث اصطفت النجوم على سطور السماء لتكتب بحروف العشق روايات ناصعات منذ آلاف السنوات.
ويمضي عام خلف عام وأنت يا دمشق تهبين كشموس العزة إلى عالم كان يعاني الجهالة وينوح تحت خيام الظلمات فكان أن استقى من مناهلك الكريمات كل أبجديات الحياة.
كنت تصخبين بالرفاهية العمرانية والأدبية بينما كانت مجموعات بشرية في دول غربية لا تعرف شيئاً عن الحريات، ولا تلم بمبادئ العلوم ولا تحكمها إلا غطرسات التجبر والتكبر على كرامة شعوبها والانغماس في الاضطهاد باسم الدين والذات الإلهية، وليس من يستطيع أن يحلل موقفاً أو يستهجن فكراً أو يطلب علماً في حين كنت يا دمشق الضياء ترسلين من قمم قاسيون الجليل، وتاريخك الفخيم يشهد، كل رسائل العلم والعمران إلى غرب أوروبا، إلى الأندلس وهناك يا دمشق وهذا ليس مديحاً واهياً وتكهنات خائبة بل حقائق مشرفة مثبتة بالحجارة والنقوش وبالزخارف والقصور وغرناطة على راحة الكفوف تعيش الفخامة والعز وزرياب يمسك بالألحان، فيصبها في الآذان الهائمة بالفن، ويصمم أزياء سبقت أشهر دور الموضة وصناعها من بيير كار دان ونينا ريتشي وفرزاتشي وغيرهم ممن طبقت اليوم شهرتهم الآفاق.
هناك وعظمتك تنساح إلى ما وراء جبال الألب الفرنسية كانت ولادة الفلسفات العربية، انطلاقاً من ابن رشد إلى ابن طفيل وابن باجة، وصولاً إلى ابن خلدون مؤسس علم العمران ومن تكلم بمهارة بنيت على المشاهدات البصرية وذلك بعد اعتكاف أربع سنوات طوال في قلعة تلمسان الجزائرية واضعاً أكبر موسوعة شهيرة باسم «مقدمة ابن خلدون» لمؤلف بعنوان «كتاب العبر ديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، وكانت تلك المعجزة المعرفية حول قوانين العمران وعلم الاجتماع وبناء الدولة قبيل قرون من الزمان وقبيل انتشار رواية «مئة عام من العزلة» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي نال عليها جائزة نوبل، حيث اعتكف أيضاً مئة يوم تقريباً ليكتبها، ولنتبنى نحن اليوم أفكارها رغم أن ظروف كولومبيا وأمريكا اللاتينية ساعدت غابرييل على تجميع أفكاره ووضعها في روايته الشهيرة.
اليوم تمر سورية في أزمة عصفت بمجدها وباجتهادات خارقة لاستعادة نهضتها والمضي بشعبها الصامد إلى اعتلاء عروش الانفتاح وإنعاش العلوم والاقتصاد ونقل سورية مما أصابها من انتكاسات إلى دولة ليست من دول العالم الثالث بل إلى الدول المتقدمات بفضل أبنائها الذين سارعوا بكل إقدام من أجل نيل العلوم والذهاب إلى أحدث الفروع ذات الاختصاصات الذرية والطبية الجراحية، ومع كل هذا لم تظهر حتى الآن أعمال أدبية وفنية تجسد ما آلت إليه أحوال البلاد، فو أسفاه.
دمشق أيتها العاصمة السورية أتكلم اليوم وصراعات الألم تحفز في داخلي كل التحديات التي صنعت منك سيدة المدائن وسليلة الحضارات ومنجبة المعجزات ويشهد على ذلك ابن عساكر والخطيب البغدادي والقلقشندي وصولاً إلى الشاعر نزار قباني، من هنا أسأل الدروب والحروف، اسأل السطور والمؤلفات، أسال أبوابك وآثارك الخالدات، أسأل آلاف السنوات الماضيات المنتشيات فخراً بما أفرزت من نجاحات، أسأل دموعي السخيات، أسأل ألرصاص والقنابل والمتفجرات، أسأل مراكز الإيواء والخيام الممزقات، أسأل الأفواه الفارغة والطفولة الضائعة والشوارع الناحبة والحواجز الإسمنتية القاسية التي اقتحمت جناتك الزمردية في تلك الظروف الجائرة، أسأل قيعان البحار أسأل دموع الأرامل الثكالى والألوان الرمادية التي حلت محل أطيافك القزحية، أسأل آلاف الأسئلة المتمردات على هدوئي وامتناني أنني سورية الموطن والانتماء، أسأل اعتكافنا في قلاع الألم والفرح الذي طار من بيوتنا، أسأل الغيم والمطر وقاسيون الذي ماج قهراً وما اندثر، أسأل الليرة التي انكمشت والأسعار التي جنت واكتوت بسببها الأرواح وأظلمت الحياة، أسأل ما الذي جري وصار، ما الذي سار بصباك إلى الشيخوخة المبكرة وأنت السحر والصبا والجمال؟.
اعذريني دمشق واعذري روحي التي انفصلت عن الجسد حتى صرت أسير متكئة على أحزاني ماضية إلى أوجاعي بلا روية ولا استدراك وأنا الاختصاصية بتاريخ البشر وتخذلني الإجابات لأنها هي الأخرى حائرة ورهينة الاستفسارات عن أسباب انزلاق دمشق الفيحاء الورقاء المنعاء الخضراء المطرزة بالآمال والموشاة بأجمل الأحلام
…ست سنوات يا دمشق أوجعت الوجع وأبكت الدموع واغتالت الأمل وأنت يا دمشق واقفة تذودين بأرواح أبنائك وعطر ترابك وثقافات الأجداد، وتخسرين عمرانك واقتصادك لتدفعي عن كيانك الانكسار وترفضين التهاوي والاستسلام…
ومع ذلك يا دمشق اعذريني إن قلت إنك تعانين اليوم من متلازمة الإهمال التي تفشت مع ظاهرة اغتيال سورية منذ ست سنوات طوال، ومن ملامح متلازمة الإهمال الفوضى العارمة على الأرصفة وبسطات عشوائية وأكشاك تتنامى على بوابات جامعة دمشق «كلية الحقوق» إحدى أهم جامعات العالم، وبالتالي تدني مستوى الحدائق التي تم تجميلها قبيل الأزمة لتكون منابع حسن ترفع من ثقافة العين البصرية التواقة للإبداع، وجعل بعضها مراكز تجمع لتوزيع الإعانات كما في إحدى أجمل الحدائق الداخلية لمنطقة سكنية متفردة عن الاكتظاظ رغم أنها منذ فترة خضعت لعمليات تحسين عالية لتصبح أيضاً ورشة تصليح للسيارات فهل يعقل؟!.
وأسأل هنا ويكبر السؤال : أين المواطن والمسؤول من حماية عراقة دمشق وحيويتها ونضارة أحيائها؟ وأتابع: إن المواطن يعدّ مسؤولاً شعبياً إضافة إلى الجهات الحكومية عما يخدش وجه سورية من انتهاكات تعريها من قوافي البهاء التي أغوت العالم بها وجذبتهم لزيارتها والتعرف على معالمها.
ومما يجدر ذكره أنها مؤخراً، ومع رسائل السماء الخيرة التي تصر على تأمين مياهها العذبة ورفد ينابيعها بالماء النميري لتوفير احتياجات الناس في فصل الصيف الحار وإرواء عطشهم إلى قطرة ماء تفوق بنكهتها وبرودتها كل المياه العالمية، ومع ذلك فقد كانت ساعات شبه مأسوية عاشتها دمشق بسبب الفيضانات التي أحدثتها هطولات مطرية وفرت ربع حاجة المدينة للماء حيث تحولت الشوارع والأزقة إلى بحيرات، ليظن واحدنا أن البحر زحف إلى دمشق تلبية لعشق المواطنين صيفاً إليه ولأمواجه والسباحة بين طياته، ومع ذلك فقد ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بسيل من الشتائم على ما حصل من فوضى وإن كنت لا أستسيغ تلك الهجمات «الفيسبوكية»، لكن تلك الحالة الفوضوية استفزت المواطن الغارق في همومه وآلامه اليومية.
إلى ما ذكرت لابد من أن نشير إلى حالة الشارع حيث أصبحت المساحة المتاحة للسيارات لا تزيد على متر وبعض المتر بينما صفوف من السيارات تغفو على الجانبين ليصبح الانتقال من مكان إلى آخر يكلف قرابة ساعة وربما ساعتين.
هنا تجمح حروفي للهياج والغيرة على أجمل مدينة تحتاج المزيد من الاهتمام التطوعي والاجتماعي والحضاري ليشرق بالعز نورها وتغني أقمارها وترقص نجومها في خيلاء وتصبح الجنة المستثناة كما وصفها أحمد شوقي فقال: «آمنت بالله واستثنيت جنته/ دمشق روح وجنات وريحان».
أما أنا فأقول: دمشق اسكنيني فأنا عاشقة عنيدة وأحيطيني بمجدك إحاطة السوار بالمعصم . الشعب السوري يا دمشق وأنت عاصمته التقية النقية يحتاجك مجاهدة لإحلال الحق ساعية إلى المجد ماضية للنصر ولتخسف في حضورك الجليل كل المدن الأخرى ولتعودي أجمل لوحة، ما استطاع رسام تجسيدها، ولا شاعر تمكن من توصيفها، باستثناء الشاعر الدمشقي نزار قباني الذي قال أجمل قصائده عن دمشق العزيزة العظيمة متيماً بعشقها مناجياً لها وكأنها الأم والحبيبة وكأنها التاريخ والأصالة والدرة النفيسة.