- أنور محمد
أغلب الجوائز بأجناسها وأشكالها وألوانها ليست بريئة، حتى (العِلمْ) وجوائزه ليس بريئاً. ولكن هذه المرَّة – ربَّما، كانت جائزة «إيمي أوورد»- أي ما يعادل الأوسكار العالمية للتلفزيون- التي راحت إلى مسلسل «بانتظار الياسمين» للمخرج سمير حسين، فيها شيء من جدية، وذلك لا بسبب حكاية المسلسل، وإن كانت حكاية مؤلمة عن ضحايا الحرب على سورية، بل بسبب الصورة التي دأب المخرج سمير على صناعتها، فأغلب الأعمال التلفزيونية حتى تلك التي تُصنع كما تُصنع المُعلبات الغذائية والأحذية والقبَّعات، هي للاستهلاك العالمي، لأنَّها جزء من تلك الثقافة الصناعية التي تسعى «المافيات» إلى تسويقها للهيمنة على مشاعر البشر وتدجينها نحو تدمير العقل/عقلها.
سمير حسين في أعماله من: ليل ورجال، إلى قاع المدينة ووراء الشمس، إلى «الواهمون»، ودليلة والزيبق، وزمن الصمت، وحائرات، حتى بانتظار الياسمين، يُعيد اللُحمة إلى الثقافة الفولكلورية الإنسانية. فهو لا يصنع (معلبات) بل يذهب إلى ينابيع العاطفة، وإلى العقل لإنتاج صورة الحياة في حركتها الواقعية، أي يذهب إلى الحضور الحيّْ، فالحبكة في أعماله التي أخرجها هي لمصلحة الصورة الواقعية.
فـ «صفيرة» أو «أبو الشوق» الذي أدَّى دوره الممثِّل أيمن رضا؛ الشرِّير الذي يعتدي ويهيمن على سكَّان ورواد الحديقة الشامية الذين هجَّرتهم التنظيمات الإرهابية، هو النموذج الرث لفاقدي الضمير، للمجرمين الذين لم يحاسبهم القانون في ظل الحرب الدائرة، هو جزء من مافيا تكوَّنت وصارت تفتك وتفترس الحياة… سمير حسين، هنا، وفي هذه، كما في أغلب أعماله يبقى واقعياً، لا خيالياً عنده، ولا دمج للخيالي بالواقعي، و»أنا» المُؤلِّف/المُخرج عنده هي أنا جمعية، فالبطلُ هو الخير وإنْ كان الشرُّ هو الغالِب.
«صفيرة» كان ضرورة في المسلسل، فأفعاله الإجرامية هي من يؤزِّم وينمِّي الصراع. في حين كان دور «لُمى» وهو خيط درامي، الذي أدَّته سلاف فواخرجي، ضعيفاً هشَّاً بسبب مُباشرته السياسية، مع ذلك فسمير حسين صوَّر مسلسله على أن الصراع فيه هو «حقيقة روائية» لأنَّه من فجائع إنسانية وليس هجائن تلفيقية، فالبشر في هذه الحرب الذين اجتمعوا، في حديقة دمشقية هُم صورةٌ لحياة يعيش فيها الناس الذلَّ والمهانة والفشل والجنون، حياة مستنقعية، حياة رهيبة، حياة بدا البشر فيها ضحايا وعُراة.
المخرج حسين في هذا المسلسل يرينا النور حين يكمد، خطوط الظلام، يرينا ما هو حيوي وليس الميكانيكي الجامد فاقد الحياء، إنَّه يبني الصراع لا يصوِّره، فالناس الذين يتحركون في «بانتظار الياسمين» ليسوا آليين ولا هم روبوتات أو دُمى متحرِّكة، والصورة بتضاداتها: الأبيض والأسود، تجنح لخلق لون جديد؛ لامع وعاتم- مُعتم. نلاحظ الأصفر والأزرق عنده لونان يقوِّيان الصراع، قوَّة في الصورة: بريق، إيماض، تألق، أحمر قانٍ يتأجَّج نحو لحظات التسامي.
سمير حسين يقوِّي الجدل/ الديالكتيك في صورته بعد أن يُجَمِّعه، هو رياضي وحيوي، ولا يمنع أنَّه يجمع أيضاً ممثلين محترفين مثل: غسان مسعود، صباح جزائري، أيمن رضا، بسام لطفي، فائق عرقسوسي، جيانا عيد، زهير رمضان، علي كريم، إلى جانب سيناريست أسامة كوكش، ومؤلِّف موسيقي رعد خلف، و(رأس مال) لعدنان حمزة- بالمناسبة من النادر أن يُوظَّف رأس المال الخاص ليقوم بأدوار إنسانية… ما يهم أنَّ الصورة التلفزيونية التي صنعها المخرج سمير حسين وصلت إلى جائزة «إيمي أوورد» العالمية التي تمنحها الأكاديمية الدولية للفنون والعلوم التلفزيونية في نيويورك، مع ثلاثة أعمال من ألمانيا وكندا والأرجنتين، من أصل 21 ألف عمل عالمي شارك في المسابقة.
المخرج سمير حسين، كما ذكر لي في مهاتفة، حصل على الـ« إيمي أوورد»، وهو بتقديري يستحقها، وأنَّ عقله كما ذكرت جدلي/ ديالكتيكي، يصنع صورته بما يربط الإنسان بالعالم، فالحرب على أرض سورية، التي يدفع أبناؤها حياتهم ثمناً لمُراهنات سياسات دولية، هم ضحايا هذه المراهنات، وهم في الصورة التي رسمها لهم في مشهدٍ من أعلى، ومشهدٍ من أسفل، وفي مسلسله «بانتظار الياسمين» صاروا فكراً، والأفكار ليس لها أسرَّة تموت عليها، هي في حالة توالد، فكرة تلد فكرة، والعقل لا يمكن أن يعدم حاله/ ينتحر. فسمير لا يروي حكاية، هو يُدرج أفكاراً، يدرج أفعالاً بحركات عميقة بدا فيها السوريون كما لو أنَّهم طرائد؛ كما لو أنَّهم فرائس لقوَّة أمريكية ودولية، وهي في أقصى ضراوتها، وشرهها الحيواني.
Views: 1