- زيد قطريب
في كل مرة تتحول القضية إلى شعار، والعنوان الإشكالي إلى «أضعف الإيمان»، رغم أننا في مرحلة تتطلب فيها المواجهة خطوات أكبر من نيّات المؤسسات الثقافية في العمل لمناقشة عنوان عريض مثل «الثقافة في مواجهة الإرهاب»، هذه القضية التي اختُزلت في عنوان على هذا النحو، ثم تحولت إلى شعار في ندوة وزارة الثقافة بدار الأوبرا بدمشق، كان يمكن أن تصح في أي زمان ومكان بسبب بقاء العناوين في مكانها منذ قرن تقريباً، ونظراً لضعف الإنتاج الذي صنعته المؤسسات الثقافية سواء في مواجهة الإرهاب أو في القضايا الأخرى، مادامت طوال سنين طويلة تنظّر حول أهمية الثقافة من دون أن تضطر لإخبارنا ماذا كانت تفعل خلال تلك المراحل؟ ولماذا لم تستطع إنجاز شيء على صعيد مواجهة الإرهاب حتى تفشى بهذا النحو، رغم أنها تملك ميزانيات كبيرة وجيوشاً من الموظفين مع تكاليف باهظة تدفعها الحكومة من أجل أن تقوم تلك المؤسسات بمهماتها فعلاً على الأرض؟.
الجمهور الذي يعد على أصابع اليد في هذه الندوة، كان يؤكد عمق الفجوة التي نتحدث عنها، باستثناء ساعة الافتتاح التي تطلبت حضور شخصيات كثيرة من أجل التقاط الصور أمام الصحافة لتأكيد ممارسة الدور ومتابعة هموم المواطن الثقافية، لتغيب تلك الوجوه لاحقاً عن سائر الجلسات التي امتدت يومين متتاليين، لأن القصة كلها كلام يمكن تكراره في أي وقت كما قلنا، ومثلما تعلّق الأمر بعنوان مثل «الثقافة في مواجهة الإرهاب» يمكن أن يكون لاحقاً حول «الثقافة في مواجهة التخلف ومحو الأمية وحرية المرأة» وكلها عناوين طرحت من سنين طويلة، ومازالت حتى اليوم!.
في جلسة اليوم الأول، وتناولت محور «منابع الفكر الإرهابي وأسباب انتشاره»، عاد الدكتور حسام شعيب إلى التاريخ، فنبش جعبة معلمي الإرهاب والمنظرين الأوائل له، بدءاً من ابن تيمية داعي التكفير وصاحب المقولة الشهيرة: «إن كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجر، يجب إهانته كما تهان الأوثان المعبودة، وإن كانت عبادتها كسائر الأحجار..»، وصولاً إلى محمد ابن عبد الوهاب مخترع الكراهية الوهابية، إلى راشد الغنوشي في تونس الذي وصَفَ ابن تيمية بأنه «أبو الصحوة الإسلامية».. وتناول شعيب فكرة مهمة تقول إن مواجهة الفكر التكفيري الديني لا يمكن أن تتم بفكر ديني آخر، لأن القضية ستعود إلى الإشكالية نفسها وهي التكفير من جراء الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة.. كما طرح شعيب فكرة عروبة الإسلام ودخول منظرين غير عرب فيه، وعدّها من الإشكاليات المحورية أيضاً، لكن تلك النقطة أعادت قضية الربط بين العروبة والدين الإسلامي التي طرحها مفكرو القومية العربية خلال الندوة حيث تشعبت العناوين، وبدت بحاجة إلى جردة حساب كاملة لحسم تلك القضايا الطاعنة في القدم. إحدى النقاط المهمة التي أشار إليها شعيب هي دور بريطانيا في اتساع الأفكار الوهابية مثلما فعلت أميركا بأفغانستان وبقية المناطق عندما أسست للإرهاب الفكري والعسكري عبر زمن طويل!.
الدكتور جوزيف أبو فاضل، أجرى مسحاً سياسياً للتطورات التي حدثت عالمياً في المواجهة مع «القاعدة» في أفغانستان، واختراع «حركة طالبان» و«القاعدة» من قبل أميركا لمواجهة السوفييت هناك، وصولاً إلى «داعش» وسائر التنظيمات المتطرفة في سورية والعراق اللتين تخوضان الحرب نفسها ضد الإرهاب في حين تقف وراء الكواليس الدول ذاتها التي دعمته خلال تاريخه الطويل بالمال أو بالسلاح والإعلام.
في جلسة اليوم الثاني التي عقدت تحت عنوان «مرتكزات المواجهة الثقافية للإرهاب»، تحدث رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور نضال الصالح عن العلاقة بين المواجهة الثقافية والمواجهة المسلحة، مشيراً إلى نقطة جوهرية تقول إن الأداء الثقافي خلال المراحل الماضية لم يتمكن من سدّ الثغرات «التي أدت إلى تسرب وتغلغل الأفكار المسمومة وتشظّي الثقافة».. كما أشار الصالح إلى «الطحالب الثقافية» التي لابد من اقتلاعها من المشهد لأنها صنيعة المال الخليجي الذي أخذ البعض من المثقفين إلى أماكن تناقض المصالح الوطنية والقومية.
الدكتور عبد الله الشاهر، تناول في مداخلته التي حملت عنوان «مهام الدولة الوطنية التعددية والديموقراطية وسيادة القانون» قال إن مهام الدولة الوطنية تقوم في القدرة على تحويل المواطنة إلى قيمة أسمى من القيم الفئوية، وذلك إذا ما أردنا «الانطلاق نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة والإقلاع عن ثقافة الانتظار وأخذ المبادرة عبر تصور جديد يتلاءم مع التحديات الماثلة من أجل بناء الدولة القائمة على المؤسسات الديمقراطية والتشريعية والقضائية والتنفيذية ومنظمات المجتمع الاهلي». الشاهر نادى أيضاً بضرورة تمجيد المواطنة وتبنّيها كقيمة عليا للخلاص من اللامبالاة وعدم الاكتراث لإنهاض المجتمع ومواجهة التحديات والأزمات وإيجاد مستقبل أفضل معافى من الظلم والأحقاد والحروب والدماء..
الإعلامية اللبنانية فيرا يمين تناولت إشكالية وجود الطاقات الكبيرة في منظومة الإعلام العربي، لكن مع غياب الإرادات.. واتهمت أدعياء الديمقراطية في إعلام الخليج بأنهم سعوا إلى إضعاف الإعلام العربي أمام الإعلام المتآمر بمختلف أنواعه.. في هذا الإطار دعت «يمين» إلى توحيد المصطلحات المستخدمة في محور المقاومة لكي تنال الفعالية والمصداقية الكاملة، كما دعت إلى إطلاق قمر صناعي خاصة لهذا المحور حتى لا يحجب محطاتهم الرجعيون كما فعلوا في السابق.
الندوة كانت مناسبة لمكاشفات نقدية جريئة، لكن اختلاط العناوين في بقية الأماكن جعل من الصعب فصل الفكر القومي العربي عن الدين الإسلامي والحديث عن المواطنة في الوقت نفسه، وتلك كانت إشكالية من الصعب حلها بالسهولة المتخيلة، كما كانت معظم المداخلات تنحو باتجاه أن مشكلة التكفير تعود إلى الناس والمفسّرين الذين فهموا النصوص بشكل خاطئ، وأن النصوص تذهب إلى غير المصبات التي أُخذت إليها!.
المكاشفات المهمة التي يمكن الإشارة إليها في هذه الندوة بشكل عام هي مداخلة المفكر عطية مسوح الذي قدم رؤية نقدية تناولت أسباب تراجع الفكر الماركسي في المنطقة العربية بشكل عام، مبيناً الظروف التاريخية والاقتصادية والثقافية التي رافقت الحركات والأحزاب الماركسية، مشيراً إلى الفشل في تبييء الفكر الماركسي الأوروبي بما يناسب المحلية العربية حيث كان هذا أحد أسباب التراجع الذي حدث.. وأيضاً فإن الدكتور مهدي دخل الله أجرى جرداً كاملاً للفكر القومي العربي، وأسباب تراجع المشروع القومي، فأشار بشفافية إلى العثرات التي عصفت بتلك التجربة، سواء من ناحية الفكرة أو من ناحية التطبيق.
في كل الأحوال، فإن العنوان الإشكالي المطروح في ندوة «يوم وزارة الثقافة» عن دور الثقافة في مواجهة الإرهاب، كان من الطبيعي أن يثير شجون الأيديولوجيات والإدارات في المؤسسات المختلفة، ورغم أن النقد هنا لا يقصد منه أن يفسد للود قضية، لكن تجارب المراحل الماضية سواء من الناحية الفكرية الفلسفية، أو من الناحية العملياتية والإدارية على الأرض، كلها تحتاج إلى مبضع لا يقيم وزناً إلا لتشريح الحالة من أجل اكتشاف أسباب الوهن، وتحديد التشخيص الصحيح للمرض من أجل الاتفاق على العلاج في النهاية، تلك المسائل الجوهرية يبدو من الصعب إنجازها إلا بالمكاشفات الجريئة ووضع الإصبع على الجرح مهما كان الثمن، لأن الإرهاب كما اتفق الجميع في الندوة يشبه الطحالب التي تنمو في عتم الرطوبة، ولا يقضي تالياً إلا الضوء!.
Discussion about this post