عاصم الشيدي –
يبدأ السياسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي تقديمه لكتاب «في كواليس الشرق الأوسط.. مذكرات صحفي بجريدة لوموند» للكاتب الفرنسي إريك رولو بالقول: «هذا كتاب مهم»، وهذه ليست جملة دبلوماسية هذه المرة من رجل دبلوماسي، ولكنها حكم قد يبدو حقيقيا للكتاب الصادر في نوفمبر الماضي عن دار الطناني للنشر في القاهرة ترجمة عن اللغة الفرنسية قامت بها الدكتورة داليا سعودي.. لكن إريك توفي قبل أن يرى الترجمة العربية لكتابه أو يحضر تدشينها. الكتاب مهم لأن كاتبه هو الصحفي إريك رولو الذي اكتسب شهرة واسعة من خلال قربه من قضايا الشرق الأوسط منذ مرحلة مبكرة لتحول هذا الشرق إلى منطقة ساخنة لصنع الأحداث. وكان إريك رولو حاضرا في عمق المشهد من خلال عمله مديرا لقسم الشرق الأوسط بجريدة لوموند الفرنسية ذائعة الصيت. والكتاب بما حواه من تفاصيل وخبايا نتيجة حوارات مع رموز المرحلة وتحليلات مبنية على اطلاع بكواليس الفعل السياسي يعد مرجعا ثمينا للجيل العربي الذي لم يعش تفاصيل الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي.
ورغم أن إريك رولو يهودي إلا أنه قدم شهادة منصفة للعرب، أحداثا ورجالا، فهو مولود في القاهرة وقضى فيها دراسته كاملة من الصفوف الابتدائية إلى الجامعة، وكان يقرأ ويتكلم العربية بطلاقة أهلها كما يقول الإبراهيمي الذي تعرف على إريك منذ مرحلة مبكرة يوم كان الأول سفيرا لبلاده في القاهرة وكان الثاني نجما من نجوم لوموند. لكن إريك، الذي كان يناضل كما يروي في الكتاب في صفوف الحركة الطلابية التقدمية، اضطر لمغادرة القاهرة إلى فرنسا بعد أشهر بسيطة من قيام ثورة 23 يوليو.
المثير في حياة إريك والذي ربما يطرح الكثير من الأسئلة أنه كان رغم إقامته في فرنسا إلا أنه كان حاضرا في الحدث لحظة وقوعه، فقد كان موجودا في القاهرة لحظة حدوث حرب 67، وكان موجودا لحظة حدوث مجزرة أبو زعبل وكان موجودا بالقرب من ياسر عرفات في كل اللحظات الحاسمة وكان موجودا يوم بدأت حرب إيلول في الأردن.
ورغم المعلومات والذكريات التي يستعرضها المؤلف في كتابه/‏‏ مذكراته جراء حوارات مع قادة المرحلة إلا أن أبرز ما يمكن الحديث عنه في هذا الكتاب هو ما «طرحه» المؤلف في الفصل التاسع من كتابه حينما قال إن الزعيم جمال عبدالناصر كلفه بحمل مبادرة سلام مع إسرائيل طرحها في أحد حواراته مع لوموند.
كان إريك يجري تحقيقا صحفيا جراء الغارة الإسرائيلية على مصنع «أبو زعبل» وهي الحادثة الشهيرة التي راح ضحيتها 70 عاملا مصريا وأصيب عدد مماثل مطلع عام 1970. وتلقى إريك مكالمة هاتفية من رئاسة الجمهورية تدعوه لمقابلة جمال عبدالناصر الذي بدا خلال المقابلة في «أتم لياقته البدنية «ظاهريا» وبدا مسترخيا وهو يستهل الحديث من مقام البوح والإسرار». ورأى إريك أن المعلومات التي يتحدث عنها عبدالناصر في تلك المقابلة مهمة وأراد أن يسجلها لكن عبدالناصر منعه وقال إنه يريد التحدث من قلبه بلا قيود، لكن الغريب أن المؤلف يقول إنه في نهاية المقابلة أعطى إريك تسجيلا كاملا للحوار.
ليست هنا قمة الإثار ولكن الإثار عندما يصل المؤلف للقول: «ها هو عبدالناصر يصرح بلا مواربة بأنه مستعد لإقرار سلام دائم مع إسرائيل وإقامة تطبيع كامل مع الدولة الإسرائيلية على مراحل متتالية، وأن المقابل الموضوعي لذلك يتمثل في حل مشكلتين، مشكلة الأراضي المحتلة ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وقد كانت المفاجأة الأخرى هي استخدامه لكلمة لاجئين الموجودة في القرار 242 لمجلس الأمن وعدم ذكره في، أي لحظة، لكلمة الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية». ثم بعد ذلك بسطور ينقل إريك عن تلك المقابلة بعبدالناصر ويقول «وأردف قائلا إن الوقت لا يزال مناسبا لتنظيم استفتاء شعبي وللعمل وفق اتفاق مشترك على تنسيق عودة المرشحين للتوطين في إسرائيل (!!) لكن من الواضح أن ذلك الأمر لم يكن يمثل بالنسبة له شرطا، إذ أضاف قائلا: يقدم قرار مجلس الأمن رقم 242 حلا لهاتين المشكلتين، الاحتلال واللاجئين. إذ يقدم إلى إسرائيل ضمانات تتعلق بحقها في الوجود السيادي، وفي الأمن وفي السلام إضافة إلى حرية عبور سفنها في خليج العقبة وفي قناة السويس» انتهى النقل.
وهذا الكلام حسب علمي يطرح لأول مرة. فلم يسبق الحديث أبدا عن أن عبدالناصر طرح مبادرة تطبيع مع إسرائيل فكان الرجل يناضل من أجل استعادة كل الأراضي العربية، ولو حدث هذا لكانت الدنيا قد قامت في تلك المرحلة الملتبسة من النضال العربي، ولكان العالم أجمع يعرف هذه المبادرة. وما عرفته أن إريك حاول جاهدا أن يكتب الأستاذ محمد حسنين هيكل مقدمة هذا الكتاب إلا أنه اعتذر وكان منطلق اعتذاره هذا الأمر الذي طرحه إريك والذي يقول هيكل إنه لم يسمع به. ويبدو أن هيكل خشي أن يُفهم تقديمه للكتاب موافقته الضمنية على ما جاء فيه. وكان إريك كان قد طرح هذه الفكرة بعد صدور كتاب هيكل مفاوضات العرب السرية مع إسرائيل «من ثلاثة أجزاء»، وتساءل حينها لماذا لم يطرح هيكل مبادرة عبدالناصر.
وعلى العموم يحتاج هذا الأمر لمزيد من البحث والتأكد خاصة أن إريك يقول إن جريدة الأهرام أعادت نشر مقابلته مع عبدالناصر بالحرف من أجل أن لا يُعتقد أن مبادرته طرحت للاستهلاك الصحفي الخارجي فقط.
يبدأ الكتاب الذي كان الزعيمان عبدالناصر وياسر عرفات من أبرز نجومه بفصل أول حمل عنوان «جمال عبدالناصر» وهو فصل يتحدث فيه المؤلف عن أول حوار له مع جمال عبدالناصر حينما جاءته دعوة لزيارة القاهرة عن طريق الأستاذ محمد حسنين هيكل حملها له إلى باريس الصحفي لطفي الخولي (الصحفي في الأهرام والكاتب المسرحي اليساري) كانت هذه الدعوة في عام 1963 وكانت مصر فيما يبدو تسعى لفتح نوافذ وأبواب لعلاقات مع فرنسا. كانت الجزائر قد حصلت حينها على استقلالها واستأنفت مصر وفرنسا علاقتهما الدبلوماسية وكانت القاهرة تأمل في ذلك الحين إنهاء الشقاق والمواجهات والبدء في علاقة مبنية على الثقة مع حكومة الجنرال ديجول الذي أولاه عبدالناصر إعجابا كبيرا، تبين لاحقا أنه إعجاب متبادل.
يقول إريك إنه أخبر الأستاذ هيكل أن قواعد المهنة تجعله لا يستطيع تجاوز موضوع المعتقلات وقمع الحريات خلال حواره مع الرئيس، ورغم أن إريك يروي أن هيكل نظر إليه بتعجب إلا أنه يعرف قواعد المهنة ولذلك لم يعترض.
وبالفعل طرح المؤلف القضية على عبدالناصر وكانت إجابة عبدالناصر سريعة ومباشرة «قررت الإفراج عن جميع السجناء السياسيين قبل نهاية هذا العام» وكان هذا العنوان رئيسيا على الصفحة الأولى في جريدة لوموند في اليوم التالي، ولاحقا خبرا أساسيا تتناقله وكالات الأنباء. وأصبح إريك بعد هذا الخبر بطلا في نظر اليساريين وفي نظر الإسلاميين لأنه استطاع انتزاع هذا التصريح من عبدالناصر.
وتواصلت بعد ذلك حوارات المؤلف ولقاءته مع عبدالناصر وكذلك مع قادة الثورة. وفي الجانب الآخر كان المؤلف يجري حوارات مماثلة مع القادة الإسرائيليين الذين كانوا ينظرون إليه باعتباره مواليا لمصر والعرب. وفي حادث له معنى يروي المؤلف أنه كان في فندق الملك داوود بالأراضي المحتلة وكان يتناول فطوره ويدخن حين اندفع نحوه النادل يمنعه من التدخين بسبب أن اليوم «هو يوم السبوت» وأصر في منعه عن التدخين. وفي اليوم نفسه التقى المؤلف بجولدا مائير لإجراء حوار صحفي واستقبلته في مطبخها وهي تدخن وأمامها منفضة كبيرة ممتلئة بأعقاب السجائر. ولما أخبرها بالأمر قالت إنها «لا تحترم نواهي الحاخامية الكبرى ولا تمارس الشعائر الدينية لكنها قالت مصرة: «التوراة أو العهد القديم كانت ولا تزال المرجع الذي يضمن بقاء الشعب اليهودي على قيد الحياة» ثم سألت المؤلف: «إلى ما كان سيؤول مصير اليهود في المنفى لو كانوا ضيعوا مرجعياتهم الدينية، لو جهلوا قصة خروج العبرانيين من مصر، لو لم يكونوا يرددون كل عام، في احتفالهم بعيد الفصح اليهودي أمنيتهم في الذهاب في العام المقبل إلى أورشليم».
ويتحدث المؤلف في الفصل السادس عن «حرب الساعات الست» والتي وصفها بأنها «أشبه ما تكون بتجربة سريالية». لم يستطع إريك ممارسة عمله حيث قطعت السلطات كما يروي جميع الاتصالات السلكية واللاسلكية مع الخارج، وبقي الصحفيون والمصورون رهن الفندق، في المقال يروي أن الصحفيين الأجانب في إسرائيل كانوا يتحركون بحرية تامة في سيارات مستأجرة وأنهم كان بإمكانهم الوصول إلى خطوط القتال بلا أي عائق. ثم بعد أيام انزاح الضباب وتبينت فصول «النكسة» وتفاصيلها.
وينقل إريك كيف أن حكاما عرب احتفلوا بالهزيمة باحتساء الشامبانيا، في وقت كانوا جميعا يتمنون له السقوط.
كان عبدالناصر متحليا بصبر أعمق، في وقت كان يعتقد فيه آخرون أن الناصرية تحتضر. وأمام اجتماع مجلس الوزراء قال عبدالناصر بصوت لا يكاد يسمع «إن نظاما قد رحل، ونظام آخر قد ولد اليوم». أما المؤلف فيعتقد أن شهادة الوفاة قد كتبت يوم 5 يونيو، «وفي ذلك اليوم سقطت في أوحال العار جميع القوى القومية اليسارية، الناصريون، والبعثيون، والاشتراكيون، والشيوعيون الذين اعتبروا مسؤولين عن الهزيمة العسكرية وعن إفلاس نظام سياسي».
وما لفت انتباه المؤلف في تلك المرحلة أن ارتياد المساجد بلغ ذروته، وهو ما جعل المصلين لا تستوعبهم المساجد ويؤدون صلواتهم على الأرصفة وفي الشوارع المتصلة بها، ويسجدون على بسط صغيرة». ويضيف: «كانت الظاهرة طبيعية تماما: فالدين هو ملاذ الناس في الشدة وهو الذي يهبهم أسباب الأمل».
وحسب الكاتب فإن أموال السعودية تدفقت على وادي النيل، فمولت المساجد ومدارس تحفيظ القرآن، والمؤسسات الإسلامية». هذه المرحلة التي أعقبت الهزيمة كانت البداية الحقيقية للتحالف الاستراتيجي بين إسرائيل وأمريكا حيث أدركت واشنطن فائدة أن يكون لها شريك متمثل في دولة قوية عسكريا، ولاؤها للولايات المتحدة كاملا بالضرورة نظرا لتبعيتها العسكرية والمالية والاقتصادية والسياسية.
وتحت أعين أمريكا القريرة الراضية، تعاونت إسرائيل سرا مع المتمردين الأكراد الانفصاليين في العراق بدءا من الستينات لتضعف بذلك نظام بغداد المعادي، ورجال المقاومة المسيحيين في جنوب السودان في «كفاحهم» ضد حكومة الخرطوم القومية العربية الإسلامية. وتغاضت أمريكا وبقرار من جونسون بدء إسرائيل التسلح النووي، وكانت أمريكا قد جهلت لفترة طويلة بأمر تعاون إسرائيل وباريس منذ النصف الثاني من عقد الخمسينات بهدف إيجاد قوة فتك نووية على موقع شاسع تحت الأرض في بلدة ديمونة.
يصف إريك الزعيم الراحل ياسر عرفات في الفصل الثامن من الكتاب بـ«ذو السبعة أرواح» وكانت العلاقة بين إريك وعرفات قد بدأت في مرحلة مبكرة في القاهرة وفي حفل عشاء أقامه السفير الجزائري في القاهرة الأخضر الإبراهيمي مطلع عام 1969.. على أن المؤلف بعد ذلك توثقت صلته بعرفات وأجرى معه العديد من الحوارات وتوثقت الصلة بينهما كثيرا.
ومن المواقف الطريفة/‏‏ الغريبة أن عرفات في حفل عشاء عقب اجتماعات منظمة التحرير الفلسطينية المقام في فبراير 1983 والذي سمح عرفات فيه بحضور أمنون كابليوك وهو صحفي إسرائيلي يتحدث العربية بطلاقة لداخل قاعة الاجتماع قد أعطى كابلوك هاتفه الشخصي وراح منه يملي خبرا على جريدته «يديعوت أحرونوت» وسط ذهول الجميع. ويذكر إريك أن ذلك العشاء دعا إليه عرفات ألد خصمه جورج حبش ونايف حواتمة زعيمي المنظمات الماركسية.
كان عرفات كما يصفه إريك شخصا لا يعترف بالهزيمة ويرى النصر دائما أمام عينيه. ويفخر إريك بأنه استطاع لمرة واحدة أن ينتزع منه «نقدا ذاتيا»، كان ذلك غداة انهيار المقاومة الفلسطينية في المملكة الأردنية الهاشمية.. قال عرفات: «نعم، اقترفنا بعض الأخطاء التي استخدمت كذرائع من قبل أعداء المقاومة الفلسطينية». الكتاب حافل بالكثير من المعلومات والمفارقات والقراءات التي قدمها إريك رولو عن المرحلة التي عاشها في منطقة الشرق الأوسط لكن قراءته تحتاج إلى من يقيّمها ممن عاشوا تلك المرحلة ويعيدها إلى سياقها التاريخي حتى لا تمحي الكتابات الحديثة السياق الحقيقي للحدث

Views: 10