البناء| التفاهم الروسي الأميركي حدث دولي وإقليمي كبير، بحجم الدولتين وحجم ما تمثله الحرب في سورية من مخاض لتوازنات دولية وإقليمية جديدة، وصفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات مرة بولادة نظام عالمي جديد.
وأولى تداعيات الحدث الذي بدا واضحاً وفقاً لتعليقات غربية عديدة، بما فيها لقادة عسكريين أميركيين، أنه يحقق أرباحاً استراتيجية لروسيا وحليفها الرئيس السوري، فيجلب العالم كله إلى الصحن الذي قدّمه الرئيس بشار الأسد للسوريين والعالم في مطلع العام 2013 بصيغة مبادرة لحلّ الأزمة السورية، تقوم على حلف دولي لمحاربة الإرهاب متمثلاً بالنصرة وداعش، وهدنة مع الفصائل المسلحة التي ترتضي اعتبار أولوية السوريين هي بالخلاص من خطر الإرهاب، وصولاً إلى حوار وطني شامل لتشكيل حكومة تمهّد لدستور جديد وانتخابات لتتشكّل حكومة تعبّر عن المجلس الجديد تتولى قيادة عملية الإعمار والمصالحة الوطنية.
الحرب على النصرة، هي كلمة السرّ التي انتظر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خروجها من فم مفاوضه وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والتي لم تخرج إلا بتفاوض مرير خاضه كيري مع المشكّكين بأهليته للتفاوض في واشنطن، وبعدما حصل مقابلها على أقلّ مما كانت سورية ومعها حلفاؤها مستعدّون لتقديمه، فجاءت التطورات الميدانية لتعزز موقعهم التفاوضي وتمنحهم فرصاً لاتفاق أفضل مما كانوا يتوقعون مقابل التخلص من الجسم العسكري الأبرز في الحرب السورية الذي تمثله جبهة النصرة، التي تضمّ تحت جناحها مئة ألف مسلح على مساحة سورية أغلبهم من السوريين المنتمين لفكر تنظيم القاعدة، ويلتفّ حولها سائر الجماعات المسلحة التي تضم قرابة الخمسين ألفاً تجمعهم روابط متفاوتة مع جبهة النصرة، بينما تضمّ تشكيلات داعش قرابة الخمسين الفاً أغلبهم من الأجانب.
سورية بدون النصرة هي سورية القادرة على الحسم مع داعش بحرب خاطفة سريعة، وسورية بدون النصرة وداعش هي سورية التي لا تجد فيها الفصائل المسلحة سوى خيار الانخراط في تسوية تمنحها وتمنح قيادتها السياسية حجماً يعادل وزنها في المجتمع السوري، عبر انتخابات ستكون محور الحلّ السياسي.
ارتبكت واشنطن ومعها السعودية والجماعات المسلحة والائتلاف المعارض وهيئة التفاوض المنبثقة عن مؤتمر الرياض. وقالت مصادر الهيئة إنها تتجه للقبول ومعها أغلب الجماعات المسلحة بدعم سعودي، لكنه قبول حذر يستند إلى انتظار فرص التملص إما عبر حملة ضغط على واشنطن محورها إخراج حزب الله من سورية أو المطالبة بتصنيفه كجبهة النصرة قوة إرهابية، أو إلى تصنيع حدث أمني استخباري تتولاه السعودية كما تمّ في استخدام السلاح الكيميائي في غوطة دمشق واتهمت الدولة السورية ونظمت على خلفية الاتهام الحملة التي كادت تؤدّي لحرب أميركية قبل ثلاث سنوات، ليتمّ التذرّع بهذا الحدث والدعوة لوقف الحرب على النصرة والخروج من التفاهم.
قالت مصادر هيئة التفاوض إنّ التفاهم يضع المعارضة بين خيارين كلاهما مرّ. فقول «نعم» قبول بالموت البطيء عبر تجريد المعارضة من أهمّ ورقة قوة عسكرية تمثلها جبهة النصرة، وتفتيت وحدتها وقدراتها تسهيلاً لابتلاعها، وفرض شروط مذلّة عليها. وقول «لا» يعني حكماً بالإعدام سيتيح مطالبة روسية للأميركيين بمعاملة المعارضة، كما جبهة النصرة كفصائل إرهابية، ويثبت صحة وجهة نظر النظام بأنّ كلّ الذين يقاتلون ضدّ الجيش السوري إرهابيون، فالقرار يشبه قرار من لديه طفل في غيبوبة سريرية لا يفيد فيها الانتظار، لكنه أسهل من قرار وقف جهاز التنفس الصناعي، وطلب الموت، فيبقى الأمل بحدوث شيء يغيّر مجرى الأمور. وقالت مصادر معارضة إنّ القاعدة الشعبية تطالب بالقبول والقاعدة العسكرية تطالب بالرفض، وهذا مصدر إرباك كبير، ولذلك كان الموقف «لعم» بدلاً من «نعم» صعبة أو «لا» مستحيلة.
منتصف الليل أبلغت هيئة التفاوض وقيادة الفصائل المسلحة باستثناء حركة «أحرار الشام» الموافقة على بنود الاتفاق، مع تحفّظات على عدم شمول حزب الله بالتعامل كتنظيم إرهابي، وعدم تضمين الاتفاق عقوبات تفرض في حال عدم الالتزام، وما وصفته بالتجنّي على النصرة بمعاملتها كتنظيم إرهابي كداعش بينما هي لا تقاتل خارج سورية كما حال داعش، وتتشكل من سوريين وتقاتل داعش والنظام، كما تريد واشنطن في توصيف سابق للمعارضة التي تريد التعاون معها.
الدولة السورية كانت بصورة التفاصيل التفاوضية للاتفاق قبل إنجازه ومثلها سائر حلفاء سورية، خصوصاً إيران، ما منح روسيا وضعاً مريحاً مع حلفائها في تسويق التفاهم، الذي ستبدأ اليوم مفاعيل تطبيق وقف النار الذي نصّ عليه.
Views: 1