من هنا كانت الحكاية، وبكلمة أوسع «توليفة» بين السكينة والعزلة، صاغها أيمن زيدان كمن رسم لوحة فوق أخرى، استعار من الأولى ألوانها ومساحتها، ثم نسج شخوصاً حالمة تخلّت أحياناً عن مسوغ درامي اعتدنا لزوم وجوده، حتى بدا أن لا مكان لمسوغات أو شروح تفسّر عديداً من أحداث مسلسل «أيام لا تنسى».
البحث عما يعنينا في العمل، لم يحتج وقتاً طويلاً، فمع أن إيقاعاً بطيئاً رافق حلقاته الأولى لكنه سرعان ما أعطى مشاهديه أشياء تخصّهم، كمتعة اكتشاف ما يمكن أن يحدث، أو خيوطاً تعني ذواتهم في عالم يمكن لهم أن يحكموا عليه كيفما يشاؤون كقضاة وقيّمين. وبموازاة ذلك كانت العزلة تبلغ ذروتها في أكثر من صعيد، بداية مع البيت الخشبي قرب النهر، كما لو كان بمنأى عن أي نشاط بشري مجتمعي، ثم في بيوت شبيهة تسكنها شخصيات أخرى، حيث تحتفي الطبيعة بنفسها، تاركةً للمتفرج حرية التجوال ذهنياً وبصرياً وتخيّل نفسه في مكان شبيه.
وما بين الصحفية «دينا» وابنة الخادمة «مريم» والجامعية «ليلى»، تمتزج الانكسارات مع عزلة كل منهن رغم تماسكهن مع تصاعد الحدث إنسانياً ودرامياً، حتى ليخيَّل للمتابع أن ردّات فعلهن أقرب لإعادة تمثيل الواقع برؤية افتراضية، ما يعني صعوبة كونها موجودة بيننا حقيقة.
ولا يتوقف مشوار العزلة هنا، فالشخصيات تنكمش أكثر على دواخلها وتستسلم لجبروت الآخر كثيراً، قبل أن تفكر في التمرد عليه، وحتى حين تحاول ذلك، ترفض الاقتراب من محاولة تحررها، وهو ما يدعمه السيناريو والإخراج، مقابل سطوة كبيرة للمكان، تستمر مع انتقال العمل لتقديم شيء من تفاصيل اليوميات السورية منذ خمس سنوات، حيث تحضر مآلات ذلك كله، ويغيب الفعل المجرد.
ينبش زيدان خبايا، أغلب الظن أنها مجهولة لدى كثيرين، ومدفونة عند آخرين، لكنه يعيد للدراما قدرتها على الإضاءة بشكل ممتع على الجوانب الخبيئة في أعماق تركيبتنا الاجتماعية والبحث عن جذور مشكلاتنا فيها، ويضعنا أمام نماذج ربما نلتقي معها بقدر ما نختلف، لكننا لا نستطيع تركها وحيدة في مواجهة مصيرها، لذا نستغرب أن يتخلى الحبيب عن حبيبته، ثم عن ابنتهما، ونستغرب أكثر تلك الشخصية القادرة على مسايرة كل ما يطرأ في سبيل مصالح مبهمة، ثم صدقها تجاه تمنّي طفل يحقق معنى لحياتها، ونتمنى أن يتاح لنا التجرد من واقعنا وآثامنا وأحلامنا، مقابل العيش في غابة وحدنا مع أرواح الشجر.. وهذا جزء مما قصدته في البحث عما يعنينا في «أيام لا تنسى».
في العمل الذي كتبته «فايزة علي»، اعتماداً على رواية «ألف شمس مشرقة» للكاتب خالد الحسيني، واقع فني مختلف عن الشكل الموضوعي، وبعيد عن فرضية أن الدراما التلفزيونية مرآة للواقع تعكس صورته بالمعنى المادي للكلمة، والحقيقة أن الواقع لا يقتصر على ما يقوم به الناس في حياتهم اليومية فحسب، فأحلام الناس وأفكارهم وأشواق أرواحهم جزء من الواقع أيضاً، لذا شاهدنا قصصاً يصعب أن نراها في مجتمعنا لكن يصح أن نشترك مع دواخل أناسها، وتتبعنا خلال الحلقات صراعات لم تكن مقنعة دوماً، لكنها كانت صادقة في جوهرها، وفي كل ذلك تمجيد للعزلة والسكينة والواقع المشتهى.
متعة الفرجة لا تعني التعايش مع الألم الذي يلف شخصيات العمل، لكنها تفتح أمام المشاهد بوابات رحبة على الغفران، أو احتمالية ممارسته يوماً بسخاء يشبه ما أقدم عليه زيدان معنا في هذا العمل، ويؤلمنا احتمال أن يلوح بيده لمهنته أو أن يلمح بجواره تخوم العزلة، هو الذي قدمها لنا، كما لم نتخيلها، فهي تنهشنا لا شك، لكنها تعيد تشكيلنا من جديد، بحواس أكثر حساسية وذهنية قادرة على ترك البشاعة وراءها.
Views: 9