تكاد اليوميات الأوروبية لا تخلو من ظهور حركة احتجاجية، يسارية كانت أو يمينة. وبرغم اختلاف مراجعها وأبعاد خطاباتها، فإنّ نخب دول الكتلة الأوروبية تواصل السقوط أمامها، في وقت يبدو فيه أنّ المشروع الأوروبي بات مملاً بسبب «الفراغ»… ليبقى السؤال الراهن: أي وجه سيأخذه بعد خروج بريطانيا؟
تختار المملكة المتحدة الخروج من الكتلة الأوروبية، فيظهر زعيم حزب «الاستقلال»، نايجل فاراج، ليقول إن عينيه «دمعتا» حين تراءى له «مع الفجر حلم مملكة متحدة مستقلة». هذا النهار الذي «أبكى» شخصية مثل فاراج، سيشهد استقالة رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، وسيطرح خلاله العديد من المتابعين أسئلة عن الأسباب التي دفعت بالبريطانيين نحو اختيار «الخروج»، ونحو تعزيز مواقع شخصيات مثل زعيم «الاستقلال».
كثيرة هي الشخصيات السياسية البريطانية التي كانت تؤيد «الخروج»، وتنتمي إلى مختلف الأحزاب والتوجهات، لكن فاراج شخصية متميزة في ما بينها. فهو يندرج ضمن مجموعة من الشخصيات الأوروبية التي صعدت حديثاً إلى صدارة المشهد السياسي، وتحاكي مواقفه مثلاً مواقف زعيمة «الجبهة الوطنية» (اليمينة المتشددة) في فرنسا، مارين لوبن، التي دعت أمس إلى استفتاء مماثل في بلدها.
من الاستياء إلى الاحتجاج
هناك من حمّل ديفيد كاميرون مسؤولية مباشرة بخصوص تداعيات ما جرى أمس، لجهة أنه دخل في «لعبة سياسية» مع الأوروبيين ومع مناوئيه ومعارضيه المحليين، فانتهى أمام نتيجة أنّ بلاده باتت عرضة لمخاطر واقعية مثل استقلال اسكتلندا، (وحتى ايرلندا الشمالية؟). لكن عملياً، هل إنّ خطأ سياسياً يتمثل بإجراء استفتاء في ظرف سياسي غير مناسب، من شأنه دفع المواطنين إلى تبني خيار مؤيد لفاراج وغيره من الذين بنوا جزءا مهماً من خطابهم على «الكراهية والعداء للمهاجرين»؟
يعتبر الصحافي البريطاني، أوين جونز، أنه «في حين أن أكبر اللوم يقع على كاميرون، فإنّ قوى اجتماعية لعبت دوراً كبيراً. من دونالد ترامب إلى بيرني سانديرز، ومن سيريزا في اليونان، إلى بوديموس في اسبانيا، ومن أقصى اليمين النمساوي إلى ظهور الحركة التحررية الاسكتلندية، إنّ هذا عصر من الاستياء يغلي ضد النخب، وإنّ هذا الاستياء يتمدد في كافة الاتجاهات: حركات يسارية جديدة، القومية المدنية والشعبوية المعادية للمهاجرين». ويشير جونز في مقالة له إلى خيبات أمل فئات بكاملها من السياسات المحلية المتبعة منذ سنوات، وهي فئات حين رُفع بوجهها «مشروع الخوف الذي قادته الحكومة» خلال حملة الاستفتاء، كانت تعرف أنّ «التهديد بأنك ستخسر كل شيء لا يعني شيئاً إذا كنت أصلاً تشعر بأن لا شيء لديك لتخسره».
صحيح أنّ جونز يجمع تحت سقف «الاستياء» (في الفقرة تلك) بين نشوء مختلف الحركات الاحتجاجية خلال الأعوام الماضية، يسارية كانت أو يمينية متشددة. لكن بصرف النظر، فإنّ ما يشير إليه كان جوابا عن سؤال مهم طرحه، أمس، العديد من المتابعين في دول أوروبية. وعلى سبيل المثال، فإنّ الصحافي الفرنسي، فرنسوا بونيه، حاول شرح «الخروج الشعبي»على الخيار الأوروبي عبر إرجاع السبب إلى «مصادرة الاتحاد الأوروبي من مواطنيه، وذلك ليس فقط من قبل الأسواق والاوليغارشيات المالية، وإنما أيضاً من قبل طبقة سياسية تعيش خارج السياق على مبدأ عدم المسؤولية وعدم المحاسبة، وتروم قول وفعل أمر في بلادها، وعكسه في بروكسل».
طبعاً، قد يمكن الاستناد في قراءة الخيار البريطاني إلى عوامل ومعطيات أخرى، ولعلّ أبرزها تاريخية. لكن منذ عام 2008 (تاريخ الأزمة المالية) تصاعد حجم ظهور الحركات الاحتجاجية في أوروبا بشكل لافت، وتكفي مراجعة تطوّر بنية ومسار «ائتلاف سيريزا» في اليونان، أو حتى «بوديموس» في إسبانيا، للوقوف على أنّ أطرافاً من ضمن تلك الحركات نجحت في الوصول إلى السلطة. وإنّ تجربة «سيريزا» (رغم التبدلات التي عرفتها منذ استلام الحكومة) أطلقت عملياً أول معركة ضد النخب المالية الأوروبية وضد التوجهات الاقتصادية المعتمدة. لكن ربما بات بالإمكان القول إنّ إخفاق «سيريزا» وعدم ظهور توجه يساري فعلي خلال حملة الاستفتاء البريطاني، سيضعان أسئلة فعلية أمام هذا التيار اليساري الذي يخسر أمام «اليمين الشعبوي».
أزمة «اتحاد»
في ظل إخفاق تجربة «تيار يساري عابر» في أوروبا، مقابل تمدد حركات «اليمين الشعبوي»، هل تتحمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي مسؤولية؟ حين سئل الأكاديمي الفرنسي المعروف، ألفرد غروسيه، قبل أشهر، عن رأيه بواقع الاتحاد الحالي، أجاب: «إنه كارثي! البلد الذي أراقبه هو بولندا (الذي بات يحكمه حزب يميني متشدد)، فهو كان من ناحية بلدا نموذجيا، لكن الآن أصبح البلد المعادي تماماً للنموذج الأوروبي، وهو مع ذلك يواصل أخذ مليارات ومليارات من بروكسل لتنميته الاقتصادية. المفروض أن تقول بروكسل يكفي، إذ ليس هناك من سبب لنموّل العداء لأوروبا».
ليس لتلك الاستعادة من أهمية إلا لإلقاء الضوء على سؤال لا بد أن يطرح في الفترة اللاحقة: ما هي الأهداف السياسية للاتحاد الأوروبي راهناً؟ (غير ملاحقة تبعات الأزمات الاقتصادية، فإنها تبقى غامضة). هل سبب دعم بلد مثل بولندا في كل الظروف يعود إلى أنه قاعدة فعلية في المواجهة مع روسيا؟ واليوم، بعد خروج بريطانيا ماذا سيعني المشروع الأوروبي؟ وخصوصاً أنّ ذلك يأتي في وقت أنّ فرنسا الحالية مثلاً ليست فرنسا القرن الماضي التي كان بإمكانها إطلاق مشروع أوروبي يتمحور حولها وحول ألمانيا.
ستدور نقاشات عدة في الأيام المقبلة، لكن تصريحات زعماء العواصم الأوروبية الكبرى، أمس، تضمنت لغة تحذيرية شديدة الخطورة والدلالات. فالمستشارة الألمانية، انجيلا ميركل، اعتبرت أنّ اختيار الخروج «ضربة موجهة إلى أوروبا والى آلية توحيدها». فيما اعتبر الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، أنه «لم يعد بوسع أوروبا الاستمرار كما من قبل». وهو تصريح يتلاقى مع دعوة رئيس وزراء إيطاليا، ماتيو رينزي، إلى «تحديث البيت الأوروبي»، بينما لفت وزير خارجية النمسا، سيباستيان كورتز، إلى أن «التصويت بفارق ضئيل لصالح البقاء كان سيكون تحذيراً لأوروبا، لكن الخروج يمثل زلزالاً سياسياً».
البعث ميديا || صحيفة الأخبار اللبنانية
Views: 1