وخطر لي الفنان الراحل «لؤي كيالي»، الذي نزل، فور عودته من دراسة الفن في روما، إلى قاع المجتمع، يرسم الصغارَ الذين ألجأتهم الحاجة للنداء على الجرائد يحملونها، وعلى أوراق اليانصيب.
إنها أصالة الفنان، بها يتماهى مع الفلاح متوجّهاً إلى الحقل ليحلب الجاموسة، ومع صبيّ ينتظر، وراء صندوقه، مارّاً يريد أن «يمسح حذاءه» وهو في طريقه إلى لقاء المحبوبة.
ولكني لن أُغفل الإشارة إلى موسيقار الجيل محمد عبد الوهاب، الذي تسامى في أغنيته/ السيمفونية «الجندول»، التي ورد فيها هذا الشعر الترف لعلي محمود طه: «ذهبيُّ الشعر شرقيُّ السمات.. مرحُ الأعطاف حلوُ اللفتات/ كلما قلت له: خذ قال: هات.. يا حبيب الروح يا حلم الخيال».
وعلى ذكر عبد الوهاب أستحضر ما وقع له، بعد أن لحّن وأدّى أغنيته المعروفة «محلاها عيشة الفلاح»، من أنه تلقّى، بعد ثورة يوليو 52، قدراً من النقد «الإيديولوجي» من كتّاب كانوا يستظلّون جريدة «المصري» (لسان حال حزب الوفد يومذاك) ويملؤون صفحتها الأخيرة بإبداعاتهم الصحفية والأدبية، على رأسهم «محمود أمين العالم»، متّهمين الموسيقار عبد الوهاب برقّة هذا اللحن ورخاوته وبقصور الكلمات في التعبير عن حالة الفلاح في الريف المصري. وأذكر- وكنت يومئذ طالباً في جامعة القاهرة- أنهم قسوا عليه في النقد، وهو الذي كان في خشية وقلق من النظام الجديد، ومثله كانت «أمّ كلثوم»، لما سلف منهما من الغناء والإشادة بالملك الذاهب حكمُه.
«قوس الحبر قوس التراب».. رويداً نحو البحر الواسع
مرهج محمد
لعلّ القراءة في مجموعة «قوس الحبر قوس التراب» الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب تعطي انطباعاً أكثر مقاربة لشعر أيمن إبراهيم معروف، حيث لقوس التراب شأن في الحبر وللحبر شأنه فيه أيضاً.
يعزف الشاعر أيمن معروف على قيثارة مجزوء الكامل فتعريه أو لعلها تعزيه القصيدة، وهو ضائع في حقول مفرداتها الوارفة، وربما يكون الاهتداء إليها هو في أن يتوه فيها: «أنـا، ربّمــا، قــد تهتُ فــي لغتــي، وعرَّتْنــي القصيــــدةُ فــي حقـــولِ المفرداتِ».
ويتابع على الوتر ذاته حاشداً كواكبه على قميص القصيدة بنقاوة النهر واندفاعه رويداً نحو البحر الواسع إلى أن يأخذه قلقه الشعري لمحاولة سبر الأغوار في اكتشاف بعض تجليات شأن الأعماق: «أنــا، ربّمــا، احتشدتْ بقمصــاني الكواكبُ عنــد مــــاءِ النّهــرِ، فاحتدمــتْ دَواتـــي. أنــا، ربّمــا، قــد جئتُ مــنْ قَبْــلِ ارتِكــابِ اللّيــلِ والمعنــى بأقــواسِ اللّغـــاتِ. أنــا، ربّمــا، قــد جئتُ مــنْ قلــقٍ ومــنْ غســقٍ.. وإنّــــي ذاهـــبٌ فــي شــأنِ ذاتـــي».
وفي الخاطرة الشعرية يرسم الجنون علامته على الطريق مستخدماً الممحاة لتكون هي العلامة أو الطريق إليها : «علــى الجنــونِ، أنْ يصيــرَ طريقــاً. علــى الطّريــقِ، أنْ يصيــرَ العلامــة. علــى العلامــةِ، أنْ صيــرَ المَحْــو.علــى المَحْــوِ، أنْ يصيــرَ العلامــةَ، والجنــونَ والطّريــق».
في قصيدته شعاع الماء ضربٌ مختلف في الشكل جرى عليه كثير من الشعراء في النأي عن تقطيع البحر في شطريه، فكتب على البسيط، فارداً شطريه إلى أجزاء كيفية، وهي وإن تكن قصيدة رثاء لكنها في حزنها الشفيف ما يوحي بأبعد من ذلك: «تَوَقَّــدَ الماءُ في أسبابِهِ، وصَفَــا. لَهْفانَ، يُذْكي على أشواقِهِ، لَهَفــا. يُباكِرُ الضّوءَ حتّى أنّهُ اتَّحَدَتْ أُوْلى عناصرِهِ فيما بِهِ، فَغَفــا. قلبٌ، تَدَفّقَ بالمعنى وشعلتِهِ حتّى تَكَشَّفَ عنْ حالٍ، وما كَشَفــا».
وأحب أن أختتم بهذين المقطعين من قوس التراب: كلُّ هذي الحروبِ الّتي شِخْتُ فيها فشبَّتْ شَظايا بهذي الحِمَى. ربّما! مثلما. مثلما شئْتَني يا فراغْ. مثلما شئتَ ترجمتي في معاجمِ هذا الضّبابِ وهذا العَمَى. ثمَّـةَ الآنَ شـيءٌ رجيـمْ! ثمَّةَ الآنَ شيءٌ وراءَ الوراءِ وقُدّامَ هذا الأمامِ وغربَ الجهاتِ وشرقَ الأنينْ.
Views: 1