الدكتور الشاعر شادي عمار – سورية
ملتقى بانياس الادبي – مدرسة النهضة الادبية الحديثة
البكائيّة في الأدب عموماً "اجتياحيّة"، فلا أدب لشعبٍ من الشعوب إلا ويحتلّ الحزن مساحات واسعة منه. لم لا والبشريّة حتّى اللحظة لم تتخلّص من خطاياها، ومازالت الحروب والمجاعات وكوارث الطبيعة تلاحق الجماعة الإنسانيّة.
لعلّ الأسباب الآنفة موجباتٌ لبزوغ الرّتم الحزين بكثرة وامتدادات، وإذا أسقطنا الأمر على الأدب العربي ككلّ، لن يخرج عن السّياق العالمي للظاهرة، خاصّةً وأنّ المنطقة العربيّة شهدت ومازالت صراعات كبرى. يسترعي الاهتمام فيها أنّها ظواهر بشريّة محضة على الأغلب، فلاكوارث طبيعيّة مهدّدة، والإقليم موفور الثروات. لكنّها الحربُ فحسب.
وإذا عدنا في نظرةٍ إلى الجاهليّة وصدر الإسلام فالأموي والعباسي حتّى عصر الانحدار فالنهضة _وهي تقسيماتٌ متّبعة في دراسة ظواهر الأدب العربي_ ظفرت _كما أسلفنا_ البكائيّة بحصّة الأسد في هذا التراث، بيد أنَّ المثير في الدراسة هو عدم لجوء الأديب العربيّ القديم للبكاء إلا في حالاتٍ موجبة للغاية، فرضتها قسوة الحروب بالدرجة الأولى، حيث يبزغ الفقدُ للحبيب أوالحريّة من العوامل الأولى، وتأتي أسبابٌ ثانوية كبكاء الحبيب الغادر أوالظاعن في مراتب أخيرة!
فالأقدمون لم يصدروا عن الحزن بل أُقسروا عليه! ولطالما تغزّلوا وافتخروا في أحلك المواقف. لن نعدمَ حتى في عصر الانحدار بأقسامه المملوكيّ والعثماني الذي نكب البلاد العربية نكبات مروّعة! تغزّلاً وتغنّياً بالطبيعة بل وموضوعيّةً عالية في تناول المآسي الماحقة.
لنصلَ إلى العصر الراهن وحداثة الأدب العربي، فنرى ابتداء الأديب اليافع أولى كلماته بالبكاء، ورغم الاستقرار النسبيّ للمنطقة قياساً بالقرون الوسيطة، فالحزنُ بطاقة مرورٍ اعتمدها أدباء المرحلة الراهنة للوصول إلى نصٍّ أدبيٍّ مقبول.
لاأعثر على نصٍّ عربيٍّ حديث لايتخلله الألم، ولايتعلّق الأمر بحالةٍ اقتصاديّةٍ أواجتماعيّةٍ صعبة، إذا ماعرفنا أن حتّى الموسرين يبدأون عهد الكتابة بالدّموع، وتغدو الذاتيّة الزرقاء المتألّمة سمةً عامّة، يخرج البعض عنها في شذراتٍ يتيمة!
أعتقد أنَّ السّبب "فكريّ" و"حضاري" أكثر منه سياسيٌّ أواقتصاديّ! فالحزن هو شعورٌ إنسانيّ يندرج في قائمة الواطف الإنسانيّة من حبّ وبغضٍ وفرحٍ ولامبالاة. فلمَ الحزنُ والتركيز عليه "عربيّاً"!؟ لنكادُ نجدُ أنَّ جدارة الأديب العربيّ ومهارة صولاته تتعلّق بالكمِّ الوافر من العبرات في نتاجاته! ومن يتناول أدبه السخرية والغزل يُعتبر عابثاً لاهياً يخالف الرصانة التي تقتضي الوجومَ والهموم!.
قد نعثر على جوابِ السّؤال في كونِ الأجيال العربيّة الراهنة "مرفّهة" حرفيّاً قياساً بالأقدمين، تتراجع لديها قيمة العمل على حساب الاستهلاك. وفي وقتٍ "فرحَ" الأوّلون باليسير، سَقِمَ الآخِرونَ من عدم الاستحواذ على المزيد وآخر الصّرعات! أولعلّ الزّاهدين منهم كلّوا من اللهاث الحارق وراء الماديّة!
هذا وساهمت الركودة الفكريّة والسياسيّة من إعلاء راية الاستهلاك البشريّ في الإقليم، فلامنظّمات فكرية أوسياسيّة حقيقية يوجب التنازع أوالتنافس بينها إعمالاً للفكر في غير مجال التفجّع على رثاثة الحال! وبينما شكّل انتصار قبيلةٍ عربيّةٍ في حربٍ عابرةٍ ملهاةً أدبيّةً كبيرة، لم تعد حياةٌ ملؤها الكسلُ والعزوف عن ساحات التفكير والفعل لكافيةٌ أن تهبَ الفرحَ…
قد يفرح المواطنُ العربيّ الجديد بحصوله على الجهاز الأحدث في عالم الخليويّ! لكنّه لايجدُ في ماضيه، راهنه ومستقبله مايثير الأمل حقّاً. إذ غاب الدّور الإنساني للجماعة العربيّة سبعة قرونٍ من الزّمان، كُرّسَ خلالها الاستهلاكُ قيمةً عليا يكدُّ في سبيله الكادّون، وينزوي "الخاسرون" وهم الأدباء عموماً _عيون الحقيقة_ في مقتٍ عميم.
Views: 1