جواد ديوب
ومع إضاءة عامّة كافية لرؤية مناسبة.. هكذا حضرت أجساد راقصي «الأبواب المفتوحة»؛ التظاهرة التي اختارها المعهد العالي للفنون المسرحية/قسم الرقص احتفاءً بيوم الرقص العالمي، إذ إنهم خرجوا من الشكل التقليدي المتبع في السنوات الماضية حين كان يُقدّم عرضٌ كريوغرافيّ مبنيٌّ على موضوعة يقولون من خلالها هواجسهم وأفكارهم عن الحياة، الحب، الحرب، اللاإنسانية المتفجرة…
في «الأبواب المفتوحة» تقافزت أجساد الراقصين داخل فضاء صالة الباليه ذات المرايا الفسيحة، في لعبةٍ أدخلت الحضور في متاهةٍ لذيذة من التكرارات لأيادٍ وأرجلٍ ورؤوسٍ تنتحي، تتمايل، تتشابك على إيقاع موسيقاها.
بداية بكلمة يوم الرقص العالمي التي كتبها (ألكسي رافتيس)، ثم ثلاث فقرات قصيرة تتابعت أمامنا بسرعة صادمة؛ لم تترك لنا مجالاً لتأملها وتلقّيها بشكلٍ يوصلنا إلى حالة إشباعٍ حقيقي لما كنا ننتظره بشغف حين علمنا بتظاهرة ستحيي فكرة الرقص في أجسادنا المتخشّبة.
ففي فقرة الباليه الأولى «مونوتون2» (إشراف حور ملص) نشاهد راقصين (أسامة هنيدي ومعتصم الجرماني) يدوران بثقلٍ وميكانيكيّة حول راقصة (أنجيلا الدبس) بدت أكثر نضجاً وتصالحاً مع جسدها، كما زاد غياب الفكرة/الحكاية من جفاف الرقصة المجرّدة، فحتى لو كان المقصود هو ترجمةٌ لعنوان الرقصة «مونوتون/أي الصوت الواحد» لكن لم تنقل لنا وجوهُ الراقصين المتعرّقة أي شحنة عاطفية أو انفعالاً حسيّاً يحيلنا إلى جوهرٍ شائق محتمل، خاصة مع ظهورهم المباشر ومنذ اللحظة الأولى كـ«ثلاثة» بدلاً من دخولٍ ثنائيّ كان زاده الراقص الثالث غنىً درامياً بتوقيتٍ مناسب، ولكان جعلنا أكثر ترقّباً لما ستؤول إليه ثنائيةُ الجسدين المتآلفة حين يدخل عليها إيقاع جسدٍ ثالث!.
في الفقرة الثانية؛ هزّ إيقاعُ السامبا أجساد الحضور، وهيّج خيالاتهم وما يعرفونه عن الرقص اللاتيني الحارّ، فـ«معروف ديوانة» و«رند شهدا» عرفا كيف يملأان المكان بهجة وصفيراً تشجيعياً لما قدّماه باحترافية، ليتصاعد بعدها انفعالنا في فقرة ثالثة بعنوان «دواء»، حبست أنفاسنا بتصميمٍ كريوغرافيّ لافت لـ(نورس عثمان)، فأنجيلا الدبس كانت تتأوّدُ، تنكمش بين يديّ (أسامة هنيدي) ثم تطلق عنان روحها بعيداً مع حركات يديها المرتميتين عالياً كأنها تطارد خلاصاً متعذّراً، فيما شريكها الراقص يتقدّم، يتراجع، ينقبض، ينشرح جاعلاً من جسده جسر عبور لروحٍ شريكته المتوجِّعة.
أن تحسّ بجسدك، أن تجعله حيّاً وحاضراً من الداخل والخارج، أن يكفَّ عن كونه مجرّد قشرة صلبة تغلّف روحاً هشّة، أن تحوّله من حجرٍ صمٍّ إلى قلبٍ ينبض شغفاً ومتعة… ربما هذا ما قصد إليه الراقص والمشرف على التظاهرة وأستاذ الرقص في المعهد «معتز ملاطية لي»، سواء من الاحتفالية نفسها أو من البروشور الذي صمّمه ليرينا جسداً مكوّناً من حجارةٍ ملساء رُتّبت لصق بعضها لتعطي إحساساً بكائنٍ بشريٍّ يرقص مبتهجاً بنفحة روحٍ دبّت في صلابته من حرارة الرقص..
ولذلك أيضاً تحوّلت صالة الباليه إلى درسٍ حيٍّ مباشر، فاتحةً الأبواب أمام الحضور لتعلّم شيء، ولو بسيطاً، عن أنواع الرقص المعروفة للمهتمين، إذ تحوّل الجمهور المتنوع (آباء وأمهات مع أطفالهم، بعض طلاب قسم التمثيل، ومَنْ لم يشارك في التظاهرة من طلاب قسم الرقص) إلى تلاميذ يتابعون بخجلٍ وارتباك في البداية، الحركات التي يؤدّيها مدرّبو الرقص الشباب، خاصة مع نوعٍ كلاسيكيّ صعب هو «الباليه» (المدرّبة نغم معلا)، لكن بانطلاقٍ ومرحٍ وتوثّب في فقرة «المعاصر» (حور ملص) و«الهيب هوب» (محمد شباط)، و«السالسا» (معروف ديوانة)؛ حيث بدت هذه الأنواع أسهل ربما، وجعلت أجساد الحضور أكثر تلقائيةً في إظهار الرغبة بالانعتاق من الخجل وصرامة الباليه الكلاسيكية رغم جماله بالتأكيد.
ممتعةٌ، إلى حدٍّ ما، كانت تلك التظاهرة بما حققته من تواصل، لكنها بدت بحاجة إلى تعميقٍ أكثر، وعناية بفقراتها الرئيسة، حتى لو كانت الغاية منها، بحسب المنظّمين، هي فعلُ جديدٍ يُشرِكُ الناس في متعة يفتقدونها في حياتهم اليومية، وفتحُ بابٍ لتحقيق بعضٍ من رغباتهم وأحلامهم في الرقص شفاءً لأرواحٍ هدّها زمنٌ راهنٌ يرقص فيه الموت على أجسادنا جميعاً.
javados2004@yahoo.com
Views: 0