اتصلت بالمخرج عبد اللطيف عبد الحميد من أجل تصريح صحفي عن فيلمه الجديد «أنا وأنتِ وأمّي وأبي»
الذي سيقدّم في عرضٍ خاص في سينما سيتي بدمشق، وسواء كنت أيقظته بالفعل -كما قال- أو هي عادته اللطيفة في التهرّب الدبلوماسي من الإجابة، فقد حظيت فعلياً بالجملة التالية: «نعم، أعتقد أن السينما يمكن أن تصنع شيئاً مهمّاً ومؤثراً حتى في زمن الحرب، أو… هيك المفروض».
لكنك تأخرت كثيراً يا أستاذ عبد اللطيف في أن تهزّنا من وجعنا لنستفيق من موتنا، تأخرّت في قول فيلمك/قصيدتك، فيلمك/وجعك، صرختك التي تصادت في قلوبنا وجعلتنا ننتبه من جديد إلى شقائنا، وما بات قناعة راسخة كالصدأ عند بعضنا.
يبدو واضحاً انحياز المخرج عبد الحميد إلى مقولات فكرية أو مضامين سياسية تتعدى الوقوف الفطري أو التلقائي مع فكرة «الوطن» بمكوناته ودياناته / طوائفه، هذه الخمائر التي أنضجت خبزَ المحبّة وملح الألفة بين السوريين رغم شوائب عكّرت ماءَ «العقلانية» لديهم. فموقف شخصية الأم / مديرة المدرسة (سوزان نجم الدين)، مدعوماً من حميها «أبو خالد» (حسام تحسين بك) وابنها «طرفة» الجندي/بطل الفيلم أو الشخصية المحورية (يامن الحجلي) في مقابل موقف زوجها الأستاذ الجامعي/المثقف «خالد» (سامر عمران)، هو موقف يتبناه عبد الحميد إلى أقصاه، بل يبني عليه سيرورة حكايته، وتفاصيل العيش والأحداث التي تسيِّر شخصيات الفيلم كأنها قدرٌ لم يستطع حتى الحبّ إيقاف مجرياته الموجعة.
ولأن الشام هي أصل الحكايات وفروعها، بداية الحب ومنتهاه، فاتحة القصائد ونقطة الختام؛ يبدأ عبد الحميد الفيلم بمشهد بانورامي لدمشق يتدفق في لقطات تعرِض لنا زوايا أبنية حديثة وأطراف مشربيّاتٍ خشبية من دمشق القديمة، في تجاورٍ غريب بين حداثةٍ لم تكتمل، وأصالة لم تخل من هشاشة، مشهد يتخلله صوت قصفٍ ومنظر أدخنة كثيفة تتصاعد وسط كومات الأبنية الممتدة إلى ما لا نهاية. ويختتم أيضاً بمشهد بانورامي مشابه، فيه تفصيلٌ غايةٌ في الرقّة؛ حمامُ دمشق يطير معلناً استمرار الحياة رغم حزنه ووجعه.. أفلا يحزن الحمام مثلنا تماماً؟!.
يحاول «طرفة» التوفيق بين أمّه وأبيه اللذين وصل بهما الخلاف الفكري أو موقف كل منهما تجاه الحرب على سورية إلى شبه قطيعة، فلا علاقة حميمية بينهما، ولا يأكلان كأسرة، ولا يتشاركان أية جلسة حول أي موضوع عائلي، كأنهما صخرتان تتصادمان. رغم محاولة الزوجة تليين موقف زوجها المتعنّت، مرة عبر تذكيره بحبّهما رغم اختلاف طائفتيهما، وأخرى عبر حثّه مشاركتهم لُقَيمات على العشاء، وثالثة بدموعها المتكررة وخوفها على مستقبل ابنهما «طرفة» الذي ينير كآبتهما وجفاءهما بعلاقة حبّ تكبر شيئاً فشيئاً أمامهما.
لكن الزوج يصرّ في كل مرة على وجهة نظره، معتبراً أن موقفه الأيديولوجي المنحاز لما يسمّيه «الثورة» هو أكبر من أن يشكّكَ فيه، أو أن يكون خاطئاً، أو تعرّض للتشوّه والانحراف عن مفاهيم يجاهر بها كالعدالة والحرية ومناهضة الديكتاتورية والقمع ومصطلحات الرأي والرأي الآخر، مجاهرة فجّة، وتمترس نفَّرَ منه حتى والده «أبو خالد» (حسام تحسين بك) الذي انفجر في وجهه معنّفاً: «العمى، حلّ عنا ياه، لسّا متشبّث بكلام خرّب البلد، لك اللي مو قدران يزبّط بيتو وعيلتو، كيف بدو يعمّر بلد؟!».
للأسف بدا هذا الصراع الفكري بين مؤيد/معارض، وطني/لا وطني، ضعيفاً في كثير من مفاصل الحوارات، فهل يعقل أن تكتفي الزوجة بموقف أقرب إلى التلقي السلبي في دفاعها عن آرائها/حياتها/أسرتها، بل عن مستقبل بلد والدخول في موجة دموع دائمة؟، ولماذا ترك عبد الحميد الأبَ المثقّف/ الأستاذ الجامعي/ الثوريّ اليساري، لا حول له ولا قوة في تبيان وجهة نظره التي ظل على قناعة تامة بها حتى أوصلته إلى قرار الانفصال النهائي عن زوجته وولده؟!، وحتى لو أراد المخرج لنا رؤية موقفه المنحاز بوضوح لمقولة شخصيات الزوجة والابن وجدّه لوالدته (بشار إسماعيل) لكن كان بإمكانه، ومن المنطق نفسه الوطني المحب، أن يوجّه انتقاده إلى شريحة كبيرة يمثلها «أبو طرفة» إنما بكشفه، بتعريته أكثر، بـ«فصفصة» مقولاته، خاصة في المشهد الذي يبوح فيه أبو طرفة لابنه، ويقول له: «بتعتقد إني قرفان منكم بالفعل؟، أنا بس ماني قدران صلّح هالشرخ اللي جوّاتي!».
وكعادته في معظم أفلامه، صنع لنا عبد الحميد قصة حب على شكل فيلم، حكاية عاشقين على شكل لوحة تشكيلية تتجاور في وسطها الواقعية مع الرمزية، وتمتزج على حوافها الانطباعية والوحشية، فأحمر ورود الحب التي يستمر «طرفة» في إرسالها إلى حبيبته «عفاف» (مرام علي) التي أنقذته من حادثة تسميم بـ«سندويشة» فلافل فعلها صاحب المطعم -المتعاون مع الإرهابيين- المقابل لبيتها، ينجدل مع لونٍ أزرق بدا واضحاً جداً اعتماده كحلٍّ بصري جمالي من (لاريسا عبد الحميد) مصممة أزياء الفيلم، خاصة في لباس الأم المسالمة المحبّة.
لكن للواقعية أو للدراما الواقعية شروطها، مهما تعاطفنا مع شخوصها وصدّقنا غرائبيتها السحرية، فـ«الهنّات» الإخراجية التي وقع فيها عبد الحميد كان من الممكن تلافيها ببساطة رغم اختزانها لمشهدية سينمائية عالية، فالهجوم الشرس الذي قامت به «عفاف» ضد صاحب المطعم، بحضور طرفة، وذاك الانفعال الحاد وهي تدلق «سطل» اللبن فوق رأسه وتضربه بقطع الخيار والبندورة كردة فعل لأنه سمّم مَن أصبح «حبيبها» من النظرة الأولى، كل هذا المشهد يبدو غريباً وصادماً في توقيته المبكر من زمن علاقة الحب الناشئة تلك، ومن قِبل صبيّة تعيش ضمن أسرة «دمشقية» غنيّة لكن محافِظة، وبوجود أخيها صاحب محل الموبايلات المتعصب (جود سعيد)، وابن خالتها /خطيبها المفترض، وكلاهما ينتميان إلى فكر منغلق وعلى اختلاف مع «السلطة».
يحيلنا عبد الحميد لشخصيات تنتمي إلى عالم الريف البسيط المحبّ بالفطرة، ويقدم لنا جمالياتها وطرافتها وطيبتها، بمشاهد ساحرة وبعين سينمائي عاشق. إذ نرى جدّ طرفة لوالدته يسكن في قرية جبلية مع زوجته، شخصيةً عفوية تلقائية، يحب طرفة ويشجعه على علاقته مع «عفاف» بلهجة قروية تستدعي الضحك معها ومنها: «والله يا عين جدّك، شهّيتني إرجع حبّ وإعشق»، بينما يلتفت في حركة صبيانية مفارقة لسنوات عمره الكبير، ويحاول مغازلة جدة طرفة كمراهقين جميلين.
تلقائية جدّ طرفة تستمر في تعامله مع «أبو خالد»، في علاقة هي التضاد الواضح مع خلاف الزوجين، وكأنها الضامن القديم والحقيقي، أو هي جوهر ما عشناه، وسنبقى نعيشه في سورية رغم الحرب التي أرادوها لنا، بل هي انعكاس لما قاله لنا عبد الحميد في تقديمه للفيلم: «عشت طفولتي وفتحت عيوني في الجولان السوري المحتل، قرية فيق، هونيك وبكل صدق، وبلا مبالغة، كان بيتنا ملتقى لأشخاص من كل محافظات سورية.. من كل طوائفها.. هيك عشت، وهيك ربيت، وهيك عملت أفلامي».
javados2004@yahoo.com
الذي سيقدّم في عرضٍ خاص في سينما سيتي بدمشق، وسواء كنت أيقظته بالفعل -كما قال- أو هي عادته اللطيفة في التهرّب الدبلوماسي من الإجابة، فقد حظيت فعلياً بالجملة التالية: «نعم، أعتقد أن السينما يمكن أن تصنع شيئاً مهمّاً ومؤثراً حتى في زمن الحرب، أو… هيك المفروض».
لكنك تأخرت كثيراً يا أستاذ عبد اللطيف في أن تهزّنا من وجعنا لنستفيق من موتنا، تأخرّت في قول فيلمك/قصيدتك، فيلمك/وجعك، صرختك التي تصادت في قلوبنا وجعلتنا ننتبه من جديد إلى شقائنا، وما بات قناعة راسخة كالصدأ عند بعضنا.
يبدو واضحاً انحياز المخرج عبد الحميد إلى مقولات فكرية أو مضامين سياسية تتعدى الوقوف الفطري أو التلقائي مع فكرة «الوطن» بمكوناته ودياناته / طوائفه، هذه الخمائر التي أنضجت خبزَ المحبّة وملح الألفة بين السوريين رغم شوائب عكّرت ماءَ «العقلانية» لديهم. فموقف شخصية الأم / مديرة المدرسة (سوزان نجم الدين)، مدعوماً من حميها «أبو خالد» (حسام تحسين بك) وابنها «طرفة» الجندي/بطل الفيلم أو الشخصية المحورية (يامن الحجلي) في مقابل موقف زوجها الأستاذ الجامعي/المثقف «خالد» (سامر عمران)، هو موقف يتبناه عبد الحميد إلى أقصاه، بل يبني عليه سيرورة حكايته، وتفاصيل العيش والأحداث التي تسيِّر شخصيات الفيلم كأنها قدرٌ لم يستطع حتى الحبّ إيقاف مجرياته الموجعة.
ولأن الشام هي أصل الحكايات وفروعها، بداية الحب ومنتهاه، فاتحة القصائد ونقطة الختام؛ يبدأ عبد الحميد الفيلم بمشهد بانورامي لدمشق يتدفق في لقطات تعرِض لنا زوايا أبنية حديثة وأطراف مشربيّاتٍ خشبية من دمشق القديمة، في تجاورٍ غريب بين حداثةٍ لم تكتمل، وأصالة لم تخل من هشاشة، مشهد يتخلله صوت قصفٍ ومنظر أدخنة كثيفة تتصاعد وسط كومات الأبنية الممتدة إلى ما لا نهاية. ويختتم أيضاً بمشهد بانورامي مشابه، فيه تفصيلٌ غايةٌ في الرقّة؛ حمامُ دمشق يطير معلناً استمرار الحياة رغم حزنه ووجعه.. أفلا يحزن الحمام مثلنا تماماً؟!.
يحاول «طرفة» التوفيق بين أمّه وأبيه اللذين وصل بهما الخلاف الفكري أو موقف كل منهما تجاه الحرب على سورية إلى شبه قطيعة، فلا علاقة حميمية بينهما، ولا يأكلان كأسرة، ولا يتشاركان أية جلسة حول أي موضوع عائلي، كأنهما صخرتان تتصادمان. رغم محاولة الزوجة تليين موقف زوجها المتعنّت، مرة عبر تذكيره بحبّهما رغم اختلاف طائفتيهما، وأخرى عبر حثّه مشاركتهم لُقَيمات على العشاء، وثالثة بدموعها المتكررة وخوفها على مستقبل ابنهما «طرفة» الذي ينير كآبتهما وجفاءهما بعلاقة حبّ تكبر شيئاً فشيئاً أمامهما.
لكن الزوج يصرّ في كل مرة على وجهة نظره، معتبراً أن موقفه الأيديولوجي المنحاز لما يسمّيه «الثورة» هو أكبر من أن يشكّكَ فيه، أو أن يكون خاطئاً، أو تعرّض للتشوّه والانحراف عن مفاهيم يجاهر بها كالعدالة والحرية ومناهضة الديكتاتورية والقمع ومصطلحات الرأي والرأي الآخر، مجاهرة فجّة، وتمترس نفَّرَ منه حتى والده «أبو خالد» (حسام تحسين بك) الذي انفجر في وجهه معنّفاً: «العمى، حلّ عنا ياه، لسّا متشبّث بكلام خرّب البلد، لك اللي مو قدران يزبّط بيتو وعيلتو، كيف بدو يعمّر بلد؟!».
للأسف بدا هذا الصراع الفكري بين مؤيد/معارض، وطني/لا وطني، ضعيفاً في كثير من مفاصل الحوارات، فهل يعقل أن تكتفي الزوجة بموقف أقرب إلى التلقي السلبي في دفاعها عن آرائها/حياتها/أسرتها، بل عن مستقبل بلد والدخول في موجة دموع دائمة؟، ولماذا ترك عبد الحميد الأبَ المثقّف/ الأستاذ الجامعي/ الثوريّ اليساري، لا حول له ولا قوة في تبيان وجهة نظره التي ظل على قناعة تامة بها حتى أوصلته إلى قرار الانفصال النهائي عن زوجته وولده؟!، وحتى لو أراد المخرج لنا رؤية موقفه المنحاز بوضوح لمقولة شخصيات الزوجة والابن وجدّه لوالدته (بشار إسماعيل) لكن كان بإمكانه، ومن المنطق نفسه الوطني المحب، أن يوجّه انتقاده إلى شريحة كبيرة يمثلها «أبو طرفة» إنما بكشفه، بتعريته أكثر، بـ«فصفصة» مقولاته، خاصة في المشهد الذي يبوح فيه أبو طرفة لابنه، ويقول له: «بتعتقد إني قرفان منكم بالفعل؟، أنا بس ماني قدران صلّح هالشرخ اللي جوّاتي!».
وكعادته في معظم أفلامه، صنع لنا عبد الحميد قصة حب على شكل فيلم، حكاية عاشقين على شكل لوحة تشكيلية تتجاور في وسطها الواقعية مع الرمزية، وتمتزج على حوافها الانطباعية والوحشية، فأحمر ورود الحب التي يستمر «طرفة» في إرسالها إلى حبيبته «عفاف» (مرام علي) التي أنقذته من حادثة تسميم بـ«سندويشة» فلافل فعلها صاحب المطعم -المتعاون مع الإرهابيين- المقابل لبيتها، ينجدل مع لونٍ أزرق بدا واضحاً جداً اعتماده كحلٍّ بصري جمالي من (لاريسا عبد الحميد) مصممة أزياء الفيلم، خاصة في لباس الأم المسالمة المحبّة.
لكن للواقعية أو للدراما الواقعية شروطها، مهما تعاطفنا مع شخوصها وصدّقنا غرائبيتها السحرية، فـ«الهنّات» الإخراجية التي وقع فيها عبد الحميد كان من الممكن تلافيها ببساطة رغم اختزانها لمشهدية سينمائية عالية، فالهجوم الشرس الذي قامت به «عفاف» ضد صاحب المطعم، بحضور طرفة، وذاك الانفعال الحاد وهي تدلق «سطل» اللبن فوق رأسه وتضربه بقطع الخيار والبندورة كردة فعل لأنه سمّم مَن أصبح «حبيبها» من النظرة الأولى، كل هذا المشهد يبدو غريباً وصادماً في توقيته المبكر من زمن علاقة الحب الناشئة تلك، ومن قِبل صبيّة تعيش ضمن أسرة «دمشقية» غنيّة لكن محافِظة، وبوجود أخيها صاحب محل الموبايلات المتعصب (جود سعيد)، وابن خالتها /خطيبها المفترض، وكلاهما ينتميان إلى فكر منغلق وعلى اختلاف مع «السلطة».
يحيلنا عبد الحميد لشخصيات تنتمي إلى عالم الريف البسيط المحبّ بالفطرة، ويقدم لنا جمالياتها وطرافتها وطيبتها، بمشاهد ساحرة وبعين سينمائي عاشق. إذ نرى جدّ طرفة لوالدته يسكن في قرية جبلية مع زوجته، شخصيةً عفوية تلقائية، يحب طرفة ويشجعه على علاقته مع «عفاف» بلهجة قروية تستدعي الضحك معها ومنها: «والله يا عين جدّك، شهّيتني إرجع حبّ وإعشق»، بينما يلتفت في حركة صبيانية مفارقة لسنوات عمره الكبير، ويحاول مغازلة جدة طرفة كمراهقين جميلين.
تلقائية جدّ طرفة تستمر في تعامله مع «أبو خالد»، في علاقة هي التضاد الواضح مع خلاف الزوجين، وكأنها الضامن القديم والحقيقي، أو هي جوهر ما عشناه، وسنبقى نعيشه في سورية رغم الحرب التي أرادوها لنا، بل هي انعكاس لما قاله لنا عبد الحميد في تقديمه للفيلم: «عشت طفولتي وفتحت عيوني في الجولان السوري المحتل، قرية فيق، هونيك وبكل صدق، وبلا مبالغة، كان بيتنا ملتقى لأشخاص من كل محافظات سورية.. من كل طوائفها.. هيك عشت، وهيك ربيت، وهيك عملت أفلامي».
javados2004@yahoo.com
Views: 5