اتهام الرئيس باراك اوباما للسعودية بأنها مصدر الإرهاب الديني المتطرف، والأفكار التي لا تخلو من احتقار العالم العربي ككل، في مقابلته لـ «الاتلانتيك»، لا يعبر عن عقيدة متكاملة للرئيس الأميركي،
بل يعكس في جزء منه تبريرات لسياسات نفذها أو دعا إليها، مضيفاً إليها تشكيلة مفاهيم استشراقية تمهد لمرحلة انسحاب أميركي جزئي أو واسع من المنطقة الى آسيا الوسطى.
أوباما استعمل المقابلة للدفاع عن قرارات مفصلية، أهمها رفضه توسيع نشر الجيش الأميركي في مناطق النزاع بعد انسحاب جزئي من العراق وأفغانستان، وامتناعه بعناد عن تطبيق تهديده باستعمال القوة لإسقاط النظام السوري في آب 2013، بعد مزاعم اتهامات لدمشق باستعمال الكيماوي.
كذلك جاءت المقابلة للدفاع عن نفسه أمام موجة انتقادات تلوم «سياسات عدم التدخل» في عهده، والتي أدت إلى خلق فراغ في الشرق الأوسط وفق ما يقول محللون متنفذون مثل مارتن أنديك، فضلاً عن تسليم المنطقة على طبق من ذهب إلى روسيا، واتهامات له بترك إسرائيل وحيدة برغم أنه سبق كل الرؤساء الآخرين في توفير الدعم والمساعدات المالية والعسكرية لها.
منذ البدء، أراد أوباما أن يتجنب فتح جبهات جديدة تتحول إلى مستنقعات للجيش الأميركي، لكنه في الوقت نفسه لم يخط مساراً مختلفاً في التدخل، بل اعتمد على حلفاء محليين، وطائرات «الدرونز» في عمليات تمتد من مالي إلى أفغانستان، بإشراف عسكري أميركي، وذلك لتقليص عدد الجرحى والقتلى الأميركيين، من دون مراعاة «الأضرار الجانبية»، وهو التعبير الذي تطلقه المؤسسة الأميركية على ضحايا العمليات العسكرية، في تقويض لإنسانيتهم وأهميتهم.
أهم ما نفهمه من أوباما أنه لا يرى «داعش» خطراً حقيقياً على الأمن القومي الأميركي، ولم يعتقد أن إسقاط الأسد يستحق تدخلاً عسكرياً أميركياً يؤدي إلى إعادة سيناريو غزو العراق. بل فضل دعم فصائل سورية لتحقيق مكاسب على الأرض، تفرض حلاً سياسياً من دون الأسد وفقاً للمعطيات.
الدخول الروسي على الخط، بما في ذلك إعلان الانسحاب الجزئي، لم يضايق أوباما كثيراً، ووضع أسس الحل وفقاً لاتفاق روسي – أميركي. وهذا يأتي معطوفاً على إعراب أوباما في مقابة «الأتلانتيك» عن فقدانه الثقة تماماً بقدرة العالم العربي على التغيير وإدارة نفسه أو حل مشاكله.
وأهم استنتاج من حديث أوباما مع «الاتلانتيك» يتمثل في أن السعودية أصبحت عبئاً على السياسة الأميركية. إذ انتهت مرحلة الاستفادة من الترويج للفكر الوهابي المتشدد في مواجهة الشيوعية وبعد ذلك التيارات التقدمية في العالم العربي وبعض الأنظمة، وفقا لمزاج المخابرات الأميركية والبنتاغون، بعدما انقلب السِحر على الساحر.
عملياً، أعلن أوباما عن انتهاء حقبة استعملت خلالها الإدارات الأميركية المتعاقبة السعودية بتعاون تام من ملوكها، من أجل نشر التطرف وتمويل جماعات تلتحف بالدين، بدءاً من حركة المجاهدين في أفغانستان، وتجنيد الشباب «تحت راية الإسلام» ومناهضة الشيوعية، وما كان لذلك من إفرازات لتنظيمات مثل «القاعدة» و «داعش» وغيرها، كانت ضمن استراتيجية زرع وتثبيت مفهوم «الصراع الديني» كبديل لمفاهيم النضال التحرري والمطالبة بالحقوق المدنية.
التطور الأهم هو أن واشنطن لم تعد بحاجة الى السعودية للتنسيق معها على زيادة أو إنقاص إنتاج النفط، وبالتالي تحديد الأسعار لتحقيق مكاسب ربحية أو أهداف سياسية مثل التضييق على روسيا. فالسعودية لم تأخذ بجدية تصريحات أوباما بأن الولايات المتحدة قاربت مرحلة الاكتفاء الذاتي من نفط دول الخليج.
تصريحات أوباما تدل كذلك على أن الجناح الذي ضغط لفترة طويلة داخل مؤسسات الحكم لتبني شعار عدم الاعتماد على النفط الخليجي، إنسجاماً مع طروحات المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني، والتي ترى في هذا الاعتماد نقطة ضعف تؤثر على موقف واشنطن من الصراع العربي – الإسرئيلي، قد انتصر. وهي تفيد بأن كل ما قامت به السعودية من تواطؤ، هي وغيرها، ضد القضية الفلسطينية، لم ولن يشفع لهم.
لا نتحدث عن مؤامرة صهيونية بل عن قصر نظر الأنظمة، خاصة التي تعتقد أن ثروتها النفطية كافية لأن تبقى «مهمة» في الاستراتيجية الأميركية. بل نتحدث عن تداعيات ودروس التبعية. فدولة عظمى مثل أميركا، تستعمل وتتخلى عن الدولة التي تضع نفسها في خدمة دور وظيفي، وتغفل عن بناء رؤية وطنية استراتيجية.
فسواء انسحبت أميركا بشكل جزئي أو واسع من المنطقة، وانتقلت إلى التركيز على آسيا الوسطى، فقد باتت تعتمد على دور جديد لإيران لـ «إعادة التوازن» في المنطقة، وهذا يستدعي إخراج إيران من معادلة العداء لإسرائيل. لذلك لن تعود السعودية لاعبا رئيسيا في مواجهة إيران، في ضوء نظرية الرهان على «إيران جديدة».
الرهان الأميركي مبني على تغييرات داخلية في البنية الاقتصادية الاجتماعية الإيرانية، بفعل الانفتاح الاقتصادي ولبرلة الاقتصاد، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج نخب داخل وخارج النظام، بعضها مستعد أصلاً لمرحلة النيولبرالية الجديدة. وبالتالي، فحتى لو احتفظت إيران الجديدة بأي من شعارات المقاومة والمجابهة، لن يكون لها المفعول نفسه علمياً، وينتهي دورها كقوة «ردع» نووية أو غير نووية في مواجهة إسرائيل.
النظام السعودي التقط أبعاد الاتفاق النووي الإيراني ـ الأميركي لناحية تقليص دوره. لكن بدلاً من إعادة الحسابات، توغل في لعبته الطائفية، في محاولة لقيادة العالم العربي، تحت شعار «الحلف السني»، غير مهتم بتداعيات تسعير الطائفية والكراهية، ولا بأن اندفاعه يجعله عبئاً على السياسة الأميركية.
لكن أوباما، وإن كان صريحاً جداً، لم يكن صادقأً حول دور السياسة الأميركية تاريخياً أو في عهده حتى، لناحية تأجيج الطائفية في العالم العربي، فكأن غزو العراق وتداعياته المستمرة في عالم آخر. وهو لم يتحمل مسؤولية دعم السعودية التي موّلت جماعات سلفية في تونس ومصر ولبنان، أو الجماعات المسلحة في سوريا التي ساهمت بمصادرة طموحات الشعب السوري ، ولا مسؤولية تأييد قمة التدخل العسكري في اليمن في شرم الشيخ.
أوباما بدا جباناً. إذ لم يتحمل مسؤولية أي من سياساته، لأن هدف المقابلة المطولة هو إنتاج «استراتيجية باسمه». علماً أن ما طرحه يلخص اتجاهات يمينية المنطلق داخل المؤسسة الأميركية، حنى يضمن مكانة وتركة شبيهة بـ «مبدأ مونرو» أو «مبدأ أيزنهاور». وفي النهاية، هذه تركات استعمارية أحب أن يتشارك بها اوباما.
بغض النظر عن نجاح الرهان الأميركي على «إيران الجديدة»، فالرسالة واضحة إلى السعودية وكل حلفاء أميركا العرب: واشنطن لا تتحمل مسؤولية أفعالهم حتى لو كانت المحرك الرئيس لها. وهي رسالة إلى جميع الأنظمة، حليفة أو غير حليفة، مفادها «لكم الحرية أن تغرقوا في اوحالكم».
هي أيضا رسالة إلى من ينتظر حلاً للقضية الفلسطينية من واشنطن. فأي تحرك قادم سيكون لإنهاء الملف باحتوائه، حتى تتفرغ أميركا لتدعيم نفوذها في آسيا الوسطى، على حساب الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية، مستغلة انشغال النخب والشــــعوب بلعبة التدمير الذاتي الطائفية.
السفير-لميس أندوني
Views: 1