مرة أخرى تبثت قطر إنها الرقم الصعب في المنطقة لجهة التعامل مع جبهة النصرة، وبقية التنظيمات الإرهابية، ولا يمكن أن يتم أي اتفاق تفاوضي مع هذا التنظيم دون المرور عبر الفخاخ السياسية التي تقيمها الدوحة لتحصيل مكاسب ضيقة للدوحة، ولا يخجل النظام القطري من دفع النصرة إلى وضع شرط أن تكون عملية مثل صفقة تبادل المخطوفين بين الجانب اللبناني والتنظيمات الإرهابية، منقولة عبر الجزيرة، ومن ثم على قنوات تتبع فريق 8 آذار اللبناني، وهو فريق يقدم فروض الطاعة المطلق لكل من السعودية وقطر، واستفادة الطرفين الآخيرين من مثل هذه الصفقة هو تحرير شخصيات من سجن رومية قد يكون لها ثقلها "الجهادي" الذي يمكن استثماره لاحقا في الملف السوري على مستوى قيادة التنظيمات المسلحة التي تخسر جزء من قياداتها الأساسية في معارك الشمال السوري.
ومن المفيد الالتفات إلى الداخل السوري، حيث تحرك مسار اثنتين من المصالحات الهامة في حي الوعر وفي مدينة قدسيا غربي دمشق، ولا يستبعد أن تطبق بنود اتفاق الزبداني، على أن تنضم إليها كل من سرغايا ومضايا، ومربط الفرس في جملة المصالحات التي ستعقد في سوريا أو اتفاقات إخلاء المظاهر المسلحة من المناطق التي يتفق عليها، أن يتم نقل المسلحين إلى إدلب، حيث المعركة الفصل بين الدولة السورية وحلفاءها من جهة، والمحور الأمريكي الذي تلعب فيه قطر والسعودية وتركيا الدور الأساس في تمويل وإدارة الميليشيات المسلحة، ويأتي ذلك، نتيجة للعمليات الجوية المكثفة على الشريط الحدودي مع تركيا، والتي قلصت من حجم دخول المسلحين إلى الداخل السوري، وقوافل الإمداد، ولأن العدد البشري مهم بالنسبة للميليشيات كان من الطبيعي أن يعمل على نقل مسلحين من مناطق في سوريا، وذلك لن يتم إلا إن حدثت اتفاقات مسلحة تضمن قدرة المسلحين على المرور بمناطق الجيش وبرعاية أممية، وهذا يؤدي إلى أن الأمم المتحدة بمنظماتها الإنسانية باتت شريكة في تعقيد المشهد الميداني السوري.
ويضاف إلى جملة الأسباب التي يحتاج من خلالها قادة الميليشيات في الشمال إلى نقل المسلحين من جبهة النصرة، وبقية الميليشيات الأخرى إلى مناطق إدلب حصراً، هو عجز الإرهابي "عبد الله المحيسني" في عقد مصالحات داخلية بين الميليشيات نفسها، فالمشهد الميليشاوي شمالا يشهد صراعات مصالح ومناهج بين مختلف الميليشيات المتواجدة هناك، ففي الوقت التي تسعى فيه قيادات النصرة إلى ضمان ولاء كل الميليشيات لها، تحاول جند الأقصى والحزب الإسلامي التركستاني الذهاب بالميليشيات في مناطق إدلب إلى التوحد على منهج تنظيم داعش، في حين تحاول الميليشيات الأخرى من قبيل "جيش الإسلام" كسب الوقوف في ظل "الاعتدال الأمريكي" والحصول على دعم أكبر بعد التخلي عن التنسيق مع تنظيم القاعدة بشكل مباشر من بقية الميليشيات، وإن كان "المحيسني" يسعى إلى أن تعلن النصرة تبرأها من القاعدة لضمان دعمها علانية من قبل الجانب الأمريكي، فإن المحيسني نفسه توصل مع القائد العسكري لـ "أحرار الشام" إلى أخذ ضمانات منه على دعم النصرة "ظالمة ومظلومة" في المرحلة القادمة، وفي كل هذا المشهد، يحضر الجانب القطري كمحرك لكل الاطراف وممول لها، فأحرار الشام هي الفصيل الذي ظهر بشكل صريح في تصريحات وزير خارجية النظام القطري فيما يخص تسليح الميليشيات في الشمال بصواريخ مضادة للطيران لمواجهة الطيران الحربي الروسي.
الدولة السورية، التي أغلقت بالتعاون مع الحليف الروسي الحدود مع تركيا بالنار، تظهر ارتياحا كبيرا للقبول بعقد اتفاقيات ينتقل بموجبها المسلحون من عدة مناطق إلى منطقة واحدة، وهي استراتيجية هامة في مواجهة الميليشيات، فبدلا من الذهاب إلى عدة نقاط ساخنة تستوجب عملا عسكريا مكثفا، ومجهودا بالتخطيط والتنفيذ، فإن هذه الاتفاقات تفضي إلى تجنيب المناطق الساخنة لمعارك عنيفة مع هذه الميليشيات لاستعادتها، وتخفف من المجهود العسكري نظرا لحشد المسلحين في مكان واحد، ما يعني إن الدولة السورية ستنقل حربها مع الميليشيات إلى ساحة واحدة يكون فيها الحسم اسرع من الساحات المتعددة، ناهيك عن تخفيف فاتورة إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الأزمة، وبذلك تكون الميليشيات في قوام يشبه قوام الجيوش النظامية، ما سيجعل المعركة معها معركة شبه كلاسيكية، وهو نوع المعارك الذي درب عليه الجيش العربي السوري منذ نشأته، وهذا يسهل معركة الشمال كثيراً لجهة أن التعامل سيسهل مع الميليشيات المسلحة إذا ما تكتلت في مناطق جغرافية محددة.
إلا أن المصالحات أو اتفاقيات التسوية التي تم التوصل إليها بين لبنان في ملف العسكريين المخطوفين، وسوريا مع الميليشيات المسلحة فيما يخص إخلاء بعض المناطق، تأتي مؤكدة على عمق الارتباط بين القاعدة وقطر تحديداً، خاصة وإن الأخيرة سمحت لحركة طالبان بافتتاح مكتب سياسي لها في قطر، وهو أمر وإن كان ليس بالحديث إلا أنه مؤشر على أن النظام القطري هو المكلف الرسمي من قبل أمريكا بالتعامل المباشر مع التنظيمات الجهادية في أفغانستان التي تشكلت فيها نواة العمل الجهادي في العالم، ونتيجة لارتباط القاعدة واعتبار زعيم تنظيم القاعدة أن زعيم طالبان هو "أمير المؤمنين" بالنسبة للتنظيمات الجهادية، وكل هذا يؤكد على إن قطر واحدة من الدول الأساسية الخارقة لمجلس الأمن والعاملة في المرحلة الحالية على إعادة هيكلة العمل "الجهادي" في الشمال السوري بالتعاون مع شريكيها الأساسيين "تركيا والسعودية" في ذلك، لمحاولة سبق الوقت والهروب إلى الأمام فيما يخص الحل السياسي في سوريا، لجهة إحداث تبدل على أرض الميدان في سوريا قبل إطلاق العملية السياسية، ومن الواضح إن السؤال الأهم بالنسبة لهذه الدول الثلاث والذي لا يجد أذن صاغية لدى المجموعة الدولية، هو إلى أين يمكن نقل الجهاديين إذا ما تمت تسوية الملف السوري، فمن الأكيد إن تركيا ستكون القبلة الأولى لأي جهادي يفر من الأراضي السوري، وتراكم الجهاديين عددياً في الأراضي التركية سيخلق مشكلة أمنية ترهق التفكير التركي، وإذا ما تم التوافق على نقل هؤلاء من تركيا، فإن اليمن وليبيا سيكونان من أهم المرشحين لتحويلهما إلى "مكب للجهاديين" الهاربين من سوريا، وهذا يلمس من خلال التبرير غير المنطقي من الرئيس الأمريكي باراك أوباما على هامش قمة الـ 20 المنعقدة مؤخرا في تركيا، حينها قال أوباما "إن مسألة تحرير الرقة غير مطروحة حاليا" مبررا ذلك بوجود مخاوف من انتقال مسلحي داعش من المدينة التي تعد أكبر معاقل التنظيم في سوريا إلى اليمن أو ليبيا، وهو تبرير "ساذج" من الرئيس الأمريكي لجهة وجود التنظيم أصلا في كل من هاتين الدولتين وبدعم "قطري – سعودي – تركي"، كما إنه لا يؤمن الحجة الكافية لعدم الجدية الأمريكية في محاربة التنظيم في سوريا والعراق، ليبقى عامل ضغط إضافي على سوريا، مع التوجه الدولي لتعقيد الملف السوري عسكريا، من خلال التحشيد الكبير للجهاديين في شمال سوريا.
الأيام القليلة القادمة باتت مرشحة لعقد المزيد من الاتفاقات في الداخل السوري، والأيام القليلة القادمة ستشهد أيضا زخم عسكري في الشمال السوري، بكون مربط الفرس في الملف السوري ميدانياً، بات من الواضح إنه في الشمال في المنطقة المحصورة بإدلب وريفها وصولا إلى أرياف "حلب – حماة – اللاذقية"، ويبدو أن الخيار المطروح من قبل الأطراف المعادية لسورية تحويل هذه المنطقة، إما لدولة جهادية أو محرقة جهادية، بمعنى أن تتمكن النصرة من فصل هذا الجزء من الدولة السورية لصالح إقامة دولة للنصرة وتوابعها، أو أن تكون محرقة يتخلص فيها العالم من خطر ارتداد الجهاديين إلى تركيا ومنها إلى بقية مناطق العالم.
عربي برس – محمود عبد اللطيف
Views: 7