في سيرته الذاتية والتاريخية يتجلى النموذج القادر على منح الجميع قدراً جديداً من المعرفة بذواتهم، وبرحيله خسر المشهد الأدبي المصري والعربي علماً من أعلامه، فقد مثل إنتاجه طوال نصف قرن علامة من علامات القصة والرواية العربية، فضلاً عن أنه أثرى المكتبة العربية برواياته التي ترجمت إلى اللغات العالمية، وأثبتت تفرده الإبداعي.
والراحل الغيطاني، الذي ولد في الرابع من أيار 1945 في محافظة سوهاج في صعيد مصر، يعد من أهم الكتاب المصريين في المرحلة الأخيرة، وكانت أولى محاولاته القصصية عندما كتب قصة عنوانها (نهاية السكير) عام 1959، ثم نشر العديد من القصص واختار خمساً منها عام 1969 في مجموعته القصصية الأولى (أوراق شاب عاش منذ ألف عام).
عمل الغيطاني في الصحافة ليصبح مراسلاً حربياً في صحيفة «الأخبار» المصرية منذ عام 1969، ثم تولى القسم الأدبي في الصحيفة، وفي عام 1993 تولى رئاسة تحرير أسبوعية «أخبار الأدب» التابعة لمؤسسة أخبار اليوم منذ تأسيسها حتى بلوغه سن التقاعد. وكان بدأ مشروعه الروائي «دفاتر التدوين» بإصدار الدفتر الأول «خلسات الكرى» عام 1996، ثم تبعها «دنا فتدلى»، «رشحات الحمراء»، «نوافذ النوافذ»، «نثار المحو»، و»دفتر الإقامة».
وكان غزير الإنتاج، متبعاً منهجاً صارماً في الكتابة شبه اليومية، متأثراً بالروائي الكبير نجيب محفوظ الذي كانت تربطه به علاقة وثيقة، وألّف عنه أكثر من كتاب منها (نجيب محفوظ يتذكر) و(المجالس المحفوظية).
كما أصدر كتباً عن الرواد في مجالي الكتابة الأدبية والصحافة منهم (توفيق الحكيم يتذكر) و(مصطفى أمين يتذكر)، إضافة إلى كتب يستعرض فيها علاقته بالتراث المعماري للقاهرة الفاطمية، ومنها (ملامح القاهرة في ألف عام) و(أسبلة القاهرة) و(استعادة المسافر خانة.. محاولة للبناء من الذاكرة).
ساهم «الغيطاني» في إعادة إحياء العديد من قصص التراث العربي وإخراجها في قالب أدبي متميز، ليخلق عالماً روائياً فريداً نابعاً من اطلاعه الموسوعي على الأدب القديم، ليعيد بذلك اكتشاف الأدب العربي القديم بنظرة معاصرة.
وكان الروائي الراحل، توج في شهر حزيران الماضي بأهم جائزة ثقافية مصرية في الآداب، وهي «جائزة النيل» لتكون الجائزة الكبرى قد عرفت طريقها لمبدع جمع ما بين «ثقافة الإتقان» وروح الصوفي وفلسفة المعماري وصبر النسّاج، من دون أن يحول انضباطه عن تحليقه كعصفور طليق في عالم الإبداع. وكان «الغيطاني» قد حصد العديد من الجوائز الأدبية منها جائزة الدولة المصرية التشجيعية للرواية عام 1980، وجائزة سلطان بن علي العويس عام 1977، ونال وسام العلوم والفنون من الرتبة الأولى، ووسام الاستحقاق الفرنسي من رتبة فارس عام 1987، وجائزة لورباتليون لأفضل عمل أدبي مترجم إلى الفرنسية عن روايته «التجليات»، وجائزة الدولة التقديرية عام 2007. كما حصل في العام 2009 على جائزة الشيخ زايد للكتاب عن كتابه «رن» وهو الدفتر السادس مما أطلق عليه «دفاتر التدوين».
أجمعت الأوساط الثقافية على أن وفاة الغيطاني «خسارة فادحة للثقافة العربية»، مشيرين إلى إسهامه في إثراء مجال المقال والقصة القصيرة والرواية، بأسلوبه الأدبي الفريد، ورؤيته الفكرية الواسعة، وما يتمتع به من عشق كبير لتراب وطنه مصر.
ونشأ الغيطاني في القاهرة حيث التحق في العام 1959 بمدرسة «الصنائع»، وفي العام نفسه بدأت أولى محاولاته القصصية عندما كتب قصة عنوانها «نهاية السكير»، ثمّ نشر كثيراً من القصص واختار خمساً منها العام 1969 في مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام».
أدباء يرثون الغيطاني عبر صفحاتهم:
قالت الشاعرة والروائية فاطمة الناعوت راثية الغيطاني عبر صفحتها على «فيسبوك»: (أهكذا قررت خذلاني يا أستاذ؟!..لم تعد إلينا من غفوتك الطويلة كما وعدتني.. وسافرت منها للسماء، حتى من دون أن تلوّح!.. كان لدي عديد الحكايات التي لابد أن أستكملها معك، عدتُ ولم تعد! وانتظرتك شهراً وشهرين طوال كأنهما الدهر! ..ناشدتك في صلواتي أن تعود، أحضرت رواياتك من مكتبتي، وأشهدتها عليك فقالت لي: غداً سيعود. طلبتُ منك، في مقالي لك، أن تعيش ألف عام، ولم أتصور أنك ستخيب رجائي، فأنت ربيب نجيب محفوظ الذي عاش ألف عام، وجاء صوتك يطمئنني بأن الغد موعدنا، وجاء الغدُ ولم تجئ.. فمنذ متى لا يفي الأساتذة بوعودهم لتلامذتهم؟!).
بدوره قال الفنان نبيل الحلفاوي: «سنفتقدك أيها المراسل الحربي الذي أتحفتنا بصياغة أدبية رفيعة لتخليد الأبطال، الذكرى تفتقدك، وشوارع القاهرة القديمة ومساجدها وجدرانها تفتقدك».
من جهته رثى الإعلامي زاهي وهبي الراحل قائلاً: كان له من اسمه نصيب، جمال الوعي والمعرفة، وجمال الحرف، وجمال الروح المصرية تتجلى في رواياته وأعماله البديعة.. جمال الغيطاني وداعاً.
نتاج أدبي تحول إلى دراما
من المفارقات أن الرواية الأولى للغيطاني «الزيني بركات»، التي صدرت طبعتها الأولى في دمشق في العام 1971، ظلّت أكثر أعماله شهرة، ويراها كثيرون أفضل رواياته، وأنتجها التلفزيون المصري في العام 1995 مسلسلاً بالعنوان نفسه.
ومن أبرز روايات الغيطاني «رسالة في الصبابة والوجد» و»شطح المدينة» و«هاتف المغيب» و«حكايات المؤسسة» و«الرفاعي» و«وقائع حارة الزعفراني» التي أنتجها التلفزيون المصري في العام 2001 في مسلسل «حارة الطبلاوي».
كما أنتجت السينما المصرية من أعماله فيلمي «أيام الرعب» الذي أخرجه سعيد مرزوق في العام 1988، و«كلام الليل» الذي أخرجته إيناس الدغيدي في العام 1999. وحوّل التلفزيون المصري في العام 1992 رواية الغيطاني «حكايات الغريب» إلى فيلم بالعنوان نفسه، أخرجته إنعام محمد علي، وقام ببطولته المطرب محمد منير، ويتناول جوانب من أحوال مدينة السويس بين حربي 1967 و1973.
رحل الغيطاني الذي كتب:
الحاضر مرآة الماضي..
«هناك نصوص إنسانية قديمة لكنها تعبر عن الحاضر، ما يعني أن ثمة قاسماً مشتركاً موجوداً، هناك حقائق إنسانية يقف الإنسان أمامها حائراً، لا يكف عن طرح الأسئلة، هنا يمكن اعتبار الأدب معبّراً عن الحقائق العميقة والدفينة في الإنسانية، وبالتالي يمكن استخدامه وبخاصة الأدب الواقعي، في فهم الأبعاد الخفية في عصر ما، لكن، هذا دور لا يقتصر على الأدب وحده، هناك أنواع أخرى من الكتابة تقوم به، مثل الحوليات، والتراجم الصوفية التي تعطينا بعداً غير تقليدي لفهم التاريخ).
Views: 4