سامي البدري
الإنسان العربي كسول، وهذا الكسل بالتأكيد لحق ذائقته وشمل قابلياتها التقبلية والنقدية بأثره. ولهذا، هي لم تتحول إلى أداة نقد واعية، وأداة تمييز كاشفة تؤسس لمشروع نقديّ ينسجم مع طرق تفكيره أو يحتويها، ويحتوي أخذه الحياة ويعبّر عن حسّه. الرؤى الفلسفية مناهج ومدارس لا تأتي من فراغ ولا تولد في فراغ، إنما هي تأتي كنتاج تطوّري لمشروع نقدي، تدفع باتجاهه ـ كحاجة ـ ذائقة نقدية أصيلة الوعي، ولها القدرة على استيعاب حاجات الوعي والنمو الفكري المتوالدة واحتوائها، التي عادة توصلها الأجناس الأدبية، عبر نتاجها، في دواوين الشعر والمجاميع القصصية والروايات وما يكتب للمسرح.
كنت قد سعيت قبل ثلاثين سنة لإنتاج كتاب قرائي/نقدي عبر نتاج الأدب العربي، يماثل، في تطلعه كتاب «اللامنتمي» لكولن ولسن، أو يقترب من هدفه النقدي الفلسفي، ولكنني صدمت بعدم وجود نتاج أدبي يصب في، أو يعبّر عن فكرة أو مشكلة فلسفية واضحة المعالم والأهداف، تحتوي أو تؤطر حدوداً واضحة لمشاكل الفكر العربي أو وجهات تطلعاته واستشرافاته. فكيف لنا أن ننضج مشروعاً نقدياً ونحن لا نجيد التعبير عن مشاكلنا وحاجاتنا بوعي ووضوح تامين؟
فالذائقة الرصدية العربية متباينة تبايناً «صقيعياً» فعلاً، من بقعة اجتماعية إلى بقعة، ولا تربطها جوامع أو منطلقات فكرية الأسس من الأساس. بمعنى أن الأدب العربي ـ باستثناء بعض الشطحات الشاذة ـ تحكمه مرحلية الدافع للتفكير والإنتاج، ولا تحكمه قواعد عملية فكرية أو مشروع فكري/فلسفي يعبّر عن حاجات ومشاكل ثابتة تعبر عن مصيره الفكري الكبير.
وهذا يعني بالمثال، أن الشاعر العربي، على سبيل المثال، انتظر هزة نكبة فلسطين وحربها، عام 1948، لكي يبحث عن أساليب شكل ومضامين جديدة أو مغايرة لمألوفاته لما قبل تلك الحادثة، إن شئنا الدقة ليعبّر فيها عن حجم تلك المأساة. وهكذا الحال مع ما تبع تلك الحرب من حروب وكوارث مماثلة. وإذا كانت الساحة الأدبية، في تلك الفترة، مقتصرة على الشعر، لعدم نضوج تجربة روائية ومسرحية يعتدّ بها، فإننا نجد أن تجربة هذه الأجناس في المراحل اللاحقة، كانت مرحلية الأهداف والمضامين هي الأخرى، وبالتالي لم تعكس «توجهاً رؤيوياً فلسفياً» محدّداً، يعبّر عمّا كانت تعالجه «الذائقة النقدية» العامة أو تتصدّى له من إشكالات ومشاكل فكرية وفلسفية.
من نافلة القول أن نذكر هنا، أن المشاريع والمدارس النقدية لا تأتي من فراغ، إنما هي حاجة تولدها حالة نضوج فكري، ترتقي بدورها بأساليب وآليات اشتغال وتعامل الذائقة، التي هي تعكس المستوى الثقافي لأي مجتمع من المجتمعات. وكلما توسعت آفاق الذائقة وارتقت في البحث عن مستويات إشباعها، ولدت أدوات ورؤى نقدية جديدة تساعدها في البحث عن مضامين جديدة تجيب عن أسئلتها الجديدة وتسدّ فراغاتها. كما أن المشاريع النقدية الناضجة، هي التي تملك وسائل الاحتجاج التقويضية للمفاهيم القديمة والناكصة وأدوات إنضاج البدائل الفكرية الأكثر حداثة وتواؤماً مع تطلعات العقل والحس الجديدة. ومثل هذه المشاريع لا تصنعها إلا ذائقة رصينة لا تساوم ولا تنفعل ولا تتنازل عن كونها وسيلة الإنضاج الفلسفي المتطلع إليها، لأن الفلسفات لا تولد من برودة العقل وجهامة صياغاته المجردة، التي تصنع الأنظمة الصماء، إنما من مراحات الحس النقي «الذائقة» التي تهذبها قوانين العقل، ومن هنا تولد المشاريع النقدية التي تقود بدورها إلى الرؤى أو المناهج الفلسفية، وهذه هي نقطة اختلاف الفلسفة عن العلم وقوانينه المجردة.
هذا الاستنتاج يوصلنا إلى أهم المشاكل التي واجهتها المناهج النقدية الأوروبية الحديثة، لدى الأوربيين، والمستوردين لها من غير الأوروبيين فبالنسبة إلى الأوروبيين ظهرت مشكلتها من كون أنها قامت على رؤى فلسفية بنظام مجرد أهمل دور الذائقة، ذلك الإهمال الذي أحال عملية قراءة النص «نقدياً» إلى ما يشبه القراءة العلمية التي تحكمت فيها قوانين النحو أو الإشارات التي أحالت جسد النص، بعد عزله عن روحيته الحسية والمشاعرية، إلى ما يشبه جسد الماكينة الحديدي، الذي يجب أن تطبق عليه قوانين الهندسة الميكانيكية ليعرف موضع الخلل في عطلها أو ضعف أدائها ولعل هذا هو السبب الذي عجل بموت بنيوية رولان بارت «التي لم تعش، من الناحية الفعلية، سوى عشر سنوات من عام 1960 إلى عام 1970 في الأوساط النقدية الفرنسية» في فرنسا وأوروبا، لأنها سعت إلى علمنة الأدب استناداً إلى هذه الرؤية، وهذه هي الإشكالية التي وقعت فيها ونفرت الأدباء والنقاد منها. أما في البلدان أو الثقافات غير الأوروبية، والعربية منها على وجه الخصوص، فإن هذه المناهج ما زالت تدرّس في جامعاتها، كمناهج أساسية قائمة وكتأريخ لتطور المناهج النقدية، لعجز هذه الثقافات عن إنتاج مناهجها أو مشاريعها النقدية الخاصة بها والملائمة لطرق تفكيرها وأنسقتها الثقافية. وعليه نرى أن ما كتبه مدرّسو هذه المناهج الأكاديميون من قراءات نقدية للنصوص العربية وفق رؤية تلك المناهج، جاء بقطيعة مع الذائقة العربية ولم تستسغه حتى «الثقافة العقلية» العربية، لا لصعوبة هضمه من قبل العقل العربي، بل لعدم انسجامه مع الذائقة العربية، لأنه لم يكن من نتاجها ومن نتاج اشتراطاتها وحاجاتها الثقافية والفلسفية.
ولهذا نرى، في ثقافتنا العربية وإصداراتنا الثقافية، أن ما يكتب من نقد تطبيقي بالاعتماد على المناهج الأوروبية أو بتطبيقها، قد انحسر ليقتصر على البحوث الأكاديمية، وأما ما تتداوله مجلاتنا وصحفنا في صفحاتها الثقافية فهو ليس أكثر من انطباعات الذائقة، لأنها تكون الأقرب للفهم والأكثر إحاطة بحاجات ذائقتنا وفهمنا الأدبيين والثقافيين.
وهذا يعني في النهاية ـ على المستوى الثقافي ـ أن الذائقة ليست كيس تبضع أو وعاء حمل للأشياء، بغضّ النظر عن هويتها وأغراض استخدامها، إنما هي أداة خلق ثورية وفعل اختبار وتصنيف، بمرجعية الحس السليم. وهذا الحس هو ما تفتقر إليه البنية الثقافية العربية، إضافة إلى البنية الذهنية القادرة على التفاعل والتوليد والانسجام مع الأفكار الجديدة.
ولنقرّب هذه الفكرة إلى ذهن القارئ، نسوق المثال التالي، الذي يعكس أو يجسّد فعلا الإشكالية التي تعاني منها الذائقة العربية في بنيتها الحسية والثقافية. فقد شاهدنا على الإنترنت، نهاية عام 2013 صوراً وتسجيلات لبدو عرب «يشربون بول البعير من مصدره»، ورأينا «رجالاً يحشرون رؤوسهم بين أفخاذ الجمال ويحضنون مؤخراتها بأذرعهم من أجل مصّ بولها من مصدره مباشرة» ولكم أن تتخيلوا أي ذائقة التي تقبل مثل هذا وبهذه الطريقة! كما عرضت «قناة العربية» تقريراً في الفترة نفسها عن طرق تعليب الجراد وبيعه ـ كوجبة غذائية نادرة ـ لدى بدو الجزيرة العربية، متجاهلين، لا بل مستهزئين بتحذيرات وزارة الصحة السعودية من الآثار الصحية والأمراض التي قد تصيبهم من المواد والمبيدات السامة، التي تعرّضت لها أسراب الجراد في البلاد التي مرّت بها أثناء هجرتها، بحثاً عن غذائها. وها هي المملكة العربية السعودية بالذات، تعاني من تفشّي فيروس «كورونا» القاتل، الذي ترجّح مختبرات مستشفيات المملكة أن تكون الإبل هي مصدر عدوى هذا الفيروس!
وإذا ما أردنا أن نفلسف تخلّف الذائقة هذا أو تحجره عند نقطة «وعي» أو «تاريخية» واحدة، نقول إن الذهنية العربية، وهي السابقة على الذائقة، تعاني من إشكالية على مستوى التقبل والهضم والاستيعاب لكل ما هو يناقض مألوفاتها المكتسبة، بسطوة التقادم التأريخي والنص الفوقي «اللاهوتي» وعليه فإنها، وبدل أن تربّي وسائل حسّها وتفاعلها وأدواتها، فإنها تربّي وسائل حماية دفاعية لحماية حالة الركود التي توفّر لها حالة من الاستقرار وراحة الكسل، ضد أو في مواجهة حالة الشك التي يولّدها وضع التفاعل، والبحث عن مبرّرات لمشروعية الجديد وصلاحه، خصوصاً في ما يتعلق بالبنى المفهومية والقيمية التي ولد عليها. ونظنّ أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بقصة تقبّل حنفية الماء، من قبل فقهاء عصر دخولها إلى حياة العرب، والتي أجبر تحليل أو شرعنة استخدامها إلى تسمية مذهب فقهي كامل باسمها.
كاتب وروائي عراقي
Views: 2