ذهبت إلى حمص للقيام بواجب تعزية أحد أقربائي، عزني ما رأيت كثيراً،
ولا أعلم لماذا تذكرت إباء زنوبيا التي أبت إلا أن تكون نداً لأشرس قياصرة روما، ولا أدري كيف ساقتني الأفكار لتذكر الفيلسوف والشاعر الكبير أبي العلاء المعري الذي «سبر أعماق الحياة واستجلى مجاهيلها بفكره العميق وتأملاته الفلسفية، ورؤاه العقلية، حيث توجه إلى نقد الحياة في مستوييها المادي والروحي لما ساد في هذين البعدين من تناقض وفساد غرق المجتمع في وحولهما، ولم يكن المعري ليتخذ هذا الموقف ويطلق هذه الصرخة لو لم يكن وصل إلى ذروة الضيق والتأفف من غثاثة العلاقات الاجتماعية ورداءتها» حيث قال:
خسيت يا أمنّا الدنيا فأف لنا بنو الخسيسة أوباش أخساء
هذا الكلام الذي طرحه المعري في ذاك الزمان نشتكي منه الآن، فعلى ما يبدو أن نظرة «أبو العلاء» نظرة شمولية، استباقية، استشراقية، وهنا في هذا السياق تستحضرني المحاضرة التي أثراها الكاتب يونس إبراهيم مؤخراً في المركز الثقافي في اللاذقية بعنوان (الإنسان في مرآة أبي العلاء المعري) الذي قدم فيها الكاتب يونس نظرة المعري تجاه الحياة وتجاه إنسان الحياة، تلك النظرة التشاؤمية للوجود وما يحويه من موجودات كلها فانية زائلة. وهنا أتساءل بما أن الحياة فانية لماذا يا أيها الإنسان لا تقضيها بالفضيلة والخير وتسمو بروحك، وتجعل العقل الذي ميزك الله به عن سواك هو الفيصل، فقد كرمك الله بأن خلقك على شاكلته، وفي أحسن صورة، وعدك جوهرة الكون ومصدر الفضيلة، وخليفته على الأرض ومثار الجدل بين الله والملائكة، لماذا يا أيها الإنسان تقتل أخاك الإنسان فهذا الكون يتسع للجميع، لماذا أيها السوريون لا تجعلون الرحمة في قلوبكم، يا أيها الإنسان أنت معادلة الوجود وجدلية الموت والحياة، يقول محي الدين بن عربي: أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وقال المعري:
والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد
وبرأي الكاتب، المعري استند في وجهة نظره إلى أن (العقل) هو مصدر الشر ومسبب التناقض والنشاز في إيقاع الشمولية الكونية إذا لم يستخدم للخير، على القرآن الكريم، عندما أمر الله آدم وحواء وإبليس يومها بالهبوط إلى الأرض، فالعداوة هي من طبع الإنسان وربما تكون من أقوى غرائزه الجامحة، إذا لم يكن لجام العقل لها قوياً، يقول المعري: كذب الظن لا إمام سوى الـــــــــعقل مشيراً في صبحه والمساء. وقد سبقه إلى قول هذا المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان
المعري صدمته الحياة كما تصدمنا الآن نحن السوريين، فلماذا أيها الإنسان تقضي عمرك بالخلافات والحروب، لماذا لا تلتفت إلى بناء ذاتك ومجتمعك فالحياة تعب وقهر ومرارة ولحظات الفرح والسعادة قليلة، وبرأي الكاتب يونس، إن مَن هشم صورة الإنسان في نظر المعري هو الإنسان نفسه الذي شوه الحياة التي خلق من أجلها، عندما عطل العقل ودمر الحواس وأقام بديلاً عنها العواطف الهابطة والغرائز الوحشية، وهذا ما أصابنا في سورية. وندعو، كما دعا المعري، مَن فيه بقية من وجدان أو قبسة من فيض نور الدين والضمير، أن يبتعد عن مفاسد وشرور هذه الطفحة الشريرة الفاسدة التي تتآلف مع بعضها في مواجهة أهل الفضيلة والعلم صانعي الخير، الذين إذا ما بلغوا مرامهم تحرفوا ضد بعضهم صراعاً وقتالاً مريراً، بغية الاستئثار بكل معطيات الحياة بدءاً من الدرهم وانتهاء بما لا تشبع منه نفوسهم الجشعة، وهؤلاء هم مَن يثيرون الاحقاد بين الناس كالذين نرى بعضهم في يومنا هذا، يتشدقون وقلوبهم مملوءة بالشرور وهم أخطر ممن يخربون، يقول:
ما الخير صوم يذوب الصائمون له ولا صلاة ولا صوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحاً ونفضك الصدر من غل ومن حسد
ويقول أيضاً:
إذا رام كيداً بالصلاة مقيمها فتاركها عمداً إلى الله أقرب
فالمعري يرى أن ممارسة الطقوس الدينية في منأى عن الشر والحقد والبغضاء هي التي يتقبلها الله من عباده، والدين ليس إلحاق الأذى بالآخرين وليس تكفيرهم لانتمائهم إلى دين أو مذهب آخر تماماً كما هو الآن، بل هو احترام الآخر وتقبله، ومَن يضلل العباد هم هؤلاء الشياطين مدّعو الدين والصلاح، بسبب ابتعاد الصالحين عن دائرة المسؤولية يقول:
يكفيك حزناً ذهاب الصالحين معاً ونحن بعدهم في الأرض قطان
ساس الأنام شياطين مسلطة في كل مصر في الوالين شيطان
ويقول:
يسوسون الأمر بغير عقل فينفذ أمرهم ويقال ساسه
وقبله قال المتنبي:
ولم أرَ ودهم إلا خداعاً ولم أرَ دينهم إلا نفاقا
إذا كان هذا في زمن المعري فكيف في يومنا هذا وكل قوى الشر تحالفهم، ولمَن لم يدرِ أو يتساءل لماذا دُمر تمثال المعري أعتقد بأن الجواب أتاك
Views: 4