لم يكن أحد يتوقع أن يكون ذلك المملوك التركي مؤسِّسًا لدولة تحكم ذاتيًّا بعيدًا عن الخلافة العباسية. لقد حفر التاريخ اسم أحمد بن طولون كمؤسِّس للدولة الطولونية التي قامت في مصر والشام والحجاز. فقد كان أحمد بن طولون جنديًّا تركيًّا، وكان والده أحد الموالي الذين أهداهم ملك بُخارَى للخليفة العباسي المأمون، وقد جاء إلى مصر نائبًا للحاكم العباسي فيها، لكنه استأثر بالحكم، ثم بسط سلطانه على الشام.
والدولة الطولونية من أبرز الدول التي ظهرت في الفترة الأولى من العصر العباسي الثاني -أو ما يُسمَّى بعصر نفوذ الأتراك[1]، وهي تعدّ أول تجربة حكم محلي تحكم فيه أسرة أو دولة حكمًا مستقلاًّ عن حكومة الخلافة العباسية المركزية. وامتدت فترة حكمها في الفترة من (254- 292هـ/ 868- 905م).
أحمد بن طولون .. نشأته
أحمد بن طولون [2] من المماليك الأتراك، ولد عام 214هـ/ 829م، وقد نشأ نشأة دينية؛ فكان يعيب على الأتراك ما كانوا يرتكبونه من المنكرات، وقضى حياته السياسية والعسكرية الأولى في ثغر طرسوس، وتمتع منذ البداية باحترام الأتراك في حاضرة الخلافة، وبعد وفاة والده عام (230هـ/ 845م) فوَّض إليه الخليفة المتوكل ما كان بيد أبيه، كما حظي بثقة الخليفة المستعين.
بعد وفاة والده تزوجت والدته بالأمير بايكباك التركي الذي عينه الخليفة المعتز واليًا على مصر في عام (254هـ/ 868م)؛ فأرسل أحمد ليتولى حكمها بالنيابة عنه، ولم يكن له كل الولاية وإنما كان على الصلاة، وله الحاضرة المصرية (الفسطاط).
أحمد بن طولون .. الوالي العباسي
ساعدت الظروف أحمد بن طولون في تثبيت أقدامه في مصر، فقد حدث أن قُتِل بايكباك في عام (256هـ/ 870م)، فأُسنِدت ولاية مصر إلى يارجوخ الذي كانت تربطه بابن طولون عَلاقات طيبة ومصاهرة، فأقرَّه على ما بيده، وزاد في سلطته بأن استخلفه على مصر كلها، باستثناء الخراج الذي ظلَّ بيد منافسه أحمد بن المدبر الذي اشتُهِر بسوء السيرة؛ مما دفع ابن طولون إلى أن طلب من الخليفة المهتدي أن يُقِيل ابن المدبر من خراج مصر ويولِّيه إياه، فاستجاب الخليفة لطلبه، كما ولاّه إمرة الثغور الشامية على إثر اضطراب أوضاعها.
ولما تُوفِّي يارجوخ في عام (259هـ/ 873م) أضحى ابن طولون حاكم مصر الشرعي من قبل الخلافة مباشرة، فتولَّى مقاليد الأمور كلها، ودانت له الإسكندرية وبرقة، وقدَّم له أمراء الكور الخضوع والطاعة [3].
الثورات في عهد أحمد بن طولون
أولاً: ثورات العلويين
1- ثورة بغا الأصغر: كان أول هذه الثورات ثورة بغا الأصغر، وهو أحمد بن محمد بن عبد الله طباطبا، الذي ترك العراق ونزل مع أتباعه في موضع بين الإسكندرية وبرقة يقال له: الكنائس، وذلك في جمادى الأولى سنة 255هـ/ 869م، ثم اتجه بمجموعته إلى الصعيد، فأرسل إليه أحمد بن طولون جيشًا بقيادة بهم بن الحسين، هزمهم وأتى برأسه إلى الفسطاط [4].
2- ثورة ابن الصوفي العلوي: واسمه إبراهيم بن محمد بن يحيى من سلالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد ثار سنة 253هـ/ 867م في مصر العليا، واستطاع الاستيلاء على إسنا في ذي الحجة سنة 255هـ/ أكتوبر 868م، فنهبها وقتل جمعًا من أهلها. ولما استفحل خطره، سيَّر إليه ابن طولون جيشًا بقيادة أزداد فتغلب عليه ابن الصوفي، ومثَّل بقائده أشنع تمثيل؛ فبادر ابن طولون بإرسال جيشًا آخر بقيادة بهم بن الحسين، فاستطاع التغلب على ابن الصوفي الذي فرَّ إلى الصحراء الغربية وظل بها ما يقرب من أربع سنوات، ثم عاد في سنة 258هـ/ 871م إلى الأشمونين ليصطدم مع ثائر آخر في أسوان هو عبد الرحمن العمري ويُهزَم، ثم يغادر بعد خلاف بينه وبين أنصاره ويدخل بلاد البجة إلى أن يصل إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر ومنه إلى مكة [5].
3- ثورة العمري: قلق ابن طولون من نشاط العمري [6]، فأرسل إليه جيشًا إلا أن هذا الجيش هُزِم، ثم آثر ابن طولون السلامة معه، بعد أن كتب له العمري أنه في مائة ألف أو يزيدون. ومن محاسن أقدار ابن طولون أن العمري لم يبقَ طويلاً؛ إذ قتله غلامان من قبيلة مُضَر، وحُمِلَ رأسُه إلى ابن طولون [7].
ثانيًا: ثورة أهل مدينة برقة
قام أهل مدينة برقة سنة 262هـ بثورةٍ، وطردوا عامل ابن طولون عليها، فسيَّر إليهم ابن طولون جيشًا بقيادة لؤلؤ الذي اتَّبع معهم سياسة اللين في البداية غير أنهم لم يخضعوا له، فاضطر لؤلؤ إلى استخدام العنف معهم، وحاصرهم، وشدَّد عليهم حتى اضطُرُّوا إلى طلب الأمان، وفتحوا أبواب مدينتهم له، فدخلها وقبض على زعماء الثورة، وعيَّن عليهم واحدًا من مواليه، ثم عاد إلى مصر [8].
ثالثًا: ثورة العباس بن أحمد بن طولون
خرج أحمد بن طولون إلى بلاد الشام في شعبان 264هـ، واستخلف ابنه العباس على مصر، وضم إليه أحمد بن محمد الواسطي مدبرًا ووزيرًا له، لكن بطانة السوء أشارت على العباس إعلان العصيان على أبيه، والقبض على الواسطي الذي أرسل لابن طولون يُعلِمُه بما يحدث، ثم اتجه إلى برقة، ولما عاد ابن طولون إلى مصر استطاع أن يقبض على ابنه، وأن يضعه في السجن حتى مات في عهد أخيه خمارويه بن أحمد بن طولون [9].
أحمد بن طولون والخليفة المعتمد
وعلى الرغم من أن المعتمد على الله كان يتولى منصب الخلافة فإنه لم يكن له من الأمر شيء، وكانت مقاليد الأمور في يد أخيه الموفق ولي عهده، وبلغ من تضييق الموفق على أخيه المعتمد وإبعاده عن مباشرة أمور الدولة أن احتاج الخليفة يومًا إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها، فقال:
أليس من العجائـب أن مثلـي *** يـرى ما قلَّ ممتنعًا عليـــه
وتؤخذ باسمـه الدنيـا جميـعًا *** وما من ذاك شيء في يديه
إليـه تُجمَــع الأمـوالُ طُــــرًّا *** ويُمنع بعض ما يُجبى إليـه
وكان الموفق قد استقلَّ الأموال التي أرسلها إليه أحمد بن طولون لمساعدته في مواجهة ثورة الزنج التي هددت الدولة العباسية خمسة عشر عامًا (255- 270هـ)؛ مما جعل العداء يشتد بينهما [10].
وحاول ابن طولون بعد أن امتد سلطانه، واتسع نفوذه أن يغري الخليفة المعتمد بالقدوم عليه في مصر، وأن يجعل من مصر مقرًّا لدولة الخلافة؛ فكتب إليه بهذا الشأن في سنة (268هـ/ 882م)، ووعده بالنصرة والحماية، لكن الخليفة لم يُجبه إلى عرضه إلا بعد ذلك بعام، فأرسل إليه يخبره بأنه خارج إليه، وكان ابن طولون في دمشق يستعد لقمع فتنة شبَّتْ في طرسوس، غير أن محاولة الخليفة اللحاق بأحمد بن طولون فشلت، وتمكَّن الموفق من ردِّ الخليفة إلى سامراء عاصمة الخلافة، وإثنائه عن محاولته.
وترتب على هذا أن قام الموفق بعزل ابن طولون عن مصر، لكن القرار لم يلقَ قَبولاً من ابن طولون الحاكم القوي وصاحب النفوذ والسلطان، ولم يكتفِ بعدم التنفيذ، بل عقد اجتماعًا في دمشق جمع فيه القضاة والفقهاء والأشراف من أنحاء ولايته، وأعلن خلع الموفق من ولاية العهد؛ لِتحكُّمه في الخليفة الشرعي واستبداده بالأمر دونه، وكتب بذلك إلى عماله في أنحاء مصر والشام، غير أن صوت العقل تدخّل بين الطرفين، وعُقد بينهما صلح، وأُقر ابن طولون على ما تحت يديه من البلاد [11].
shapeytw4565qw4.jpg
الجوانب الحضارية لأحمد بن طولون
كان أحمد بن طولون رجل دولة من الطراز الأول؛ فعُنِيَ بشئون دولته، وما يتصل بها من مناحي الحياة، ولم تشغله طموحاته في التوسع وزيادة رقعة دولته عن جوانب الإصلاح والعناية بما يحقق الحياة الكريمة لرعيته؛ ولذا شملت إصلاحاته وإسهاماته شئون دولته المختلفة.
1- القطائع
أسس أحمد بن طولون مدينة جديدة في سنة 256هـ/ 870م، على جبل يشكر -الذي يعرف بقلعة الكبش- بين الفسطاط وتلال المقطم، وقد سميت المدينة الجديدة باسم القطائع؛ لأن كل طائفة من رجاله اتخذت لها قطيعة لسكانها، فيقال: قطيعة السودان، وقطيعة الروم، وقطيعة الفراشين، وبَنَى القوَّاد مواضع متفرقة، فعَمُرَت القطائع، وبُنِيت فيها المساجد والطواحين والحمامات، حتى صارت القطائع مدينة كبيرة.وبنى ابن طولون في مدينة القطائع قصرًا ضخمًا، جعل أمامه ميدانًا فسيحًا ليستعرض فيه جيشه، ثم أقام حول القصر ثكنات لجنوده وحاشيته [12].
2- مسجد أحمد بن طولون
أراد أحمد بن طولون أن يشيد مسجدًا جامعًا بالقطائع لا تأتي عليه النيران أو تهدمه مياه الفيضان، فإن احترقت مصر بَقِي، وإن غرقت بقي، فحقَّق له المهندس رغبته، فبناه جميعه من الآجُرّ الأحمر، ورفعه على دعامات من الآجر أيضًا، ولم يُدخِل في بنائه أعمدة من الرخام سوى عمود القبلة، وانتهى بناؤه سنة 265هـ/ 878-879م، وقد استغرق بناؤه عامين. والجامع مربع الشكل، يتوسطه صحن مكشوف، تحيط من جوانبه الأربعة أربعة أروقة مسقوفة، إضافة إلى ثلاثة أورقة خارجية[13].
3- البيمارستان
أنشأ ابن طولون بيمارستانًا سنة (259هـ/ 872م) لمعالجة المرضى مجانًا دون تمييز بين الطبقات والأديان، وجعل العلاج فيه دون مقابل، وألحق به صيدلية لصرف الأدوية، فإذا دخل المريض المستشفى تنزع ثيابه وتقدَّم له ثيابٌ أخرى، ويودع ما معه من المال عند أمين المارستان، ويظل المريض تحت العلاج حتى يتم شفاؤه، وكانت دلالة شفاء المريض قدرته على أكل رغيف كامل[14] ودجاجة، وعندئذٍ يُسمَح له بمغادرة المستشفى، وكان ابن طولون يتفقد المستشفى، ويتابع علاج الأطباء، ويشرف على المرضى [15].
4- إنشاء القناطر
شيَّد أحمد بن طولون في الجنوب الشرقي من القطائع قناطر للمياه، وكان الماء يسير في عيونها إلى القطائع من بئر حفرة في أسفلها، وكان يرفع الماء من البئر إلى القناطر بواسطة ساقية، وقد بنيت هذه القناطر من نفس الآجُرّ الذي بُني منه الجامع الطولوني. لهذا يعتقد أن المهندس الذي شيدها هو نفس المهندس الذي شيد الجامع، ولا تزال بقية من هذه القناطر باقية إلى اليوم في حي البساتين بالقاهرة.
5- مسجد التنور
شيَّد أحمد بن طولون مسجدًا آخر على جبل يشكر يعرف بمسجد التنور، ويذكر المؤرخون أن مسجد التنور هو موضع تنور فرعون، كان يوقد له عليه، فإذا رأوا النار علموا بركوبه فاتخذوا له ما يريد، وكذلك إذا ركب من عين شمس، ويقال: إن تنور فرعون لم يزل في هذا الموضع بحاله إلى أن خرج إليه قائد من قواد أحمد بن طولون فهدمه وحفر تحته، ويبدو أنه كان يظن أنَّ هناك مالاً مدفونًا تحته ولكنه لم يجد شيئًا. وقد بنى أحمد بن طولون لهذا الجامع مئذنة، كانت تستعمل فيها النيران ليلاً لهداية الناس[16].
6- الزراعة
بذل أحمد بن طولون قصارى جهده لتشجيع الزراعة وزيادة الإنتاج الزراعي، فأصلح التُّرَع والقنوات التي تروي الحقول، وحفر الجديد منها، وأصلح السدود المحطمة، وحمى الفلاحين من ظلم جُباة الضرائب وتعسفهم؛ مما أدَّى إلى ازدياد مساحات الأرض المزروعة من جهة، ووصول أسعار الحبوب إلى أدنى مستوى [17].
7- الصناعة
ازدهرت الصناعة في عهد أحمد بن طولون، ويأتي على رأس الصناعات التي اشتهرت بها مصر آنذاك صناعة النسيج، من ذلك صناعة الكتان التي اكتسبت أسواقًا جديدة، وكانت تُصنع أنواع مختلفة من الكتان في مصر السفلى في مدن تِنِّيس ودِمياط ودَبِيق وشَطَا ودَمِيرة وغيرها، وفي مصر العليا في مدن الفيوم والبهنسا وإخميم. واشتُهِرَت مصر أيضًا بصناعة المنسوجات الصوفية، إضافة إلى المنسوجات المطرزة بالذهب والموشاة التي أنتجتها مدينة الإسكندرية عُرفت بجودتها العالية [18].
8- إصلاح مقياس الروضة
قام أحمد بن طولون بإصلاح مقياس النيل بالروضة، الذي أقامه والي مصر أسامة بن زيد التنوخي سنة 96هـ/ 715م لقياس ارتفاع منسوب مياه النيل، ثم جُدِّد هذا المقياس على أيام الخليفة المأمون العباسي سنة 199هـ/ 814م، ثم أُعِيد إنشاؤه زمن الخليفة المتوكل سنة 247هـ/ 861م إلى أن قام أحمد بن طولون بإصلاحه، وما زال هذا المقياس موجودًا إلى اليوم في جزيرة الروضة [19].
9- حصن الروضة
شيد أحمد بن طولون حصنًا منيعًا بجزيرة الروضة ليكون معقلاً له، لا سيَّما أن العداء بينه وبين الموفق -أخي الخليفة المعتمد- كان على أشُدِّه، وتكررت محاولات الموفق لإبعاد ابن طولون من مصر [20].
وفاة أحمد بن طولون والثناء عليه
بعد عقد صلح بين ابن طولون والموفَّق، وحلول الصلح بينهما، زحف ابن طولون ليقمع الفتنة التي شبَّت في طرسوس، فلما وصل إلى هناك، وكان الوقت شتاءً والثلج كثيرًا، لم يعُقْهُ ذلك عن نصب المجانيق على سور طرسوس لإخماد الثورة، لكنه مرض ولم يستطع الاستمرار في الحصار؛ فأسرع بالعودة إلى مصر، حيث لقي ربه في 10 من ذي القعدة 270هـ/ 10 من مايو 883م [21].
وقد أثنى عليه ابن الأثير قائلاً : "وكان عاقلاً حازمًا، كثير المعروف والصدقة، متدينًا، يحب العلماء وأهل الدين، وعمل كثيرًا من أعمال البر ومصالح المسلمين"[
Views: 2