يشّكلُ التمييزُ الجندريُّ“Gender Discrimination” بين النساءِ والرِّجالِ، والسياسات المؤثرة في عدالة النَّوع الاجتماعيّ والحماية من العنف القائم على التمييز الجنسيّ، أحد الهواجس والمشكلات التي تواجه المرأة في المجتمع والقانون والثقافة السائدة؛ ما يؤدي إلى الحدِّ من مشاركتها الفاعلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فوجود واستمرار الفجوات الجندرية وأشكال التمييز في هذه المجالات يجعل من إسهامِ النساء أقلَّ فاعليةً، ودون المستوى المأمول، سواء على صعيد الحياة العامة، أو من خلال المشاركة المتواضعة في عملية التنمية.
وقد بيّنت الأزمة والحرب على سورية وفيها، أن تأثيراتهما السلبية الملازمة لأشكال العنف المختلفة تترك الأثر الأكبر في الفئات الاجتماعية الهشة كالأطفال والنساء وكبار السنّ، خصوصاً في المناطق التي تأثرت بالحرب وسيطرة الجماعات الإرهابية المسلحة أكثر من سواها، فالتضييق والقمع والخطف والسبي وزواج القاصرات، هي أشكال مختلفة من العنف القائم على النوع الاجتماعيّ، إلى جانب العنف الأسريّ، وصولاً إلى العنف الجنسيّ، وكلّ أولئك يسبب القلق والخوف اللذين تواجههما النساء والفتيات، ويؤثر في حياتهن ونشاطهن، ويقلل من إمكانية وصولهن إلى فرص التعليم والعمل، بسبب الخشية من التعرض للاعتداءات والمضايقات والتحرش وانتشار جرائم الشرف وصعوبات العيش، والتي تؤدي إلى انتشار صيغ سلبية وجديدة من صيغ التكيُّف التي تضر بالنساء، وتمنعهن من الحصول على حقوقهن في المساعدات الإنسانية والخدمات والفرص وسواها.
وضمن سياق التوجه لتبني سياسات جندرية جديدة، لتعزيز مكانة المرأة وأكثر إنصافاً للنساء، تأتي حزمة التعديلات التي أجراها البرلمان السوري، والتي طالت العديد من مواد قانون الأحوال الشخصية الأكثر ملائمة لحاجات المجتمع ومتطلبات التطور والتنمية.
وقد أوضحَ تقريرٌ حديثٌ أعدّتهُ منظماتُ الأممِ المتحدة الأربع وهي: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ بالتعاون مع منظمة المرأة؛ وصندوق الأمم المتحدة للسكان؛ واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا". وقد صدر أواخر عام 2018 بعنوان "سوريا عدالة النوع الاجتماعيّ والقانون" مع تقارير تعاين حالة النوع الاجتماعيّ في ثمانية عشر بلداً عربيّاً، ويتناول مفردات تتصل مباشرة بعدالة النوع الاجتماعيّ مثل: الحماية من العنف الأسريّ، وجرائم الشرف، والمواريث، والجنسيّة، وقوانين العمل، والإتجار بالبشر[1].
هذا، وبحسب التقرير، فإنَّ القانون السوريَّ يكفل المساواة بين الجنسين والحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعيّ، وهو متسق إلى حدٍّ كبير مع المعايير الدولية، باستثناء بعض أوجه انعدام المساواة وخصوصاً في قانون الجنسية، رغم أن الدستور ينصُّ صراحة على أنَّ المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدِّين أو العقيدة[2].
أما فيما يخصُّ قانون الجنسيّة لسنة 1969، فلا تتمتع النساء بالحقوق نفسها كالرجال في نقل الجنسية لأطفالهن أو لأزواجهن الأجانب؛ بينما تتفاوت القوانين الجنائية، إذ ليس لدى سورية قانون للحماية من العنف الأسريّ، بينما يحظّر القانون رقم 2 لعام 2010 الإتجار بالأشخاص، وينصّ على تدابير شاملة لمكافحة الإتجار، كذلك الحال بالنسبة للاغتصاب لغير الزوج، إذ تجرم المادة 489 من قانون العقوبات رقم 148 لسنة 1949 الاغتصاب، وتكون العقوبة الإعدام إذا لم يتم المعتدى عليه 15 عاماً أو في حال وقوع الجرم تحت تهديد السلاح، إلا أنه يتم تخفيف عقوبة المغتصب إذا تزوج الضحية بموجب المادة 508 من قانون العقوبات. كما أن جرائم الشرف تحظى بالعذر المخفف، كما تنصُّ المادة 192 من قانون العقوبات إذا رأى القاضي أنَّ الدافع كان "شريفاً". فضلاً عن قوانين لمعاقبة العمل بالجنس وقوانين مكافحة البغاء والزنا.
وتبقى قوانين الأحوال الشخصية أقلَّ أنواعِ القوانين مراعاةً لعدالة النَّوعِ الاجتماعيّ، سواء اتصلت بسنّ الزواجِ، أو بولاية الرجالِ على النساء، وفي قضايا الزواج والطّلاق وحضانة الأطفال وتعدّد الزوجات، والمواريث، ومع أن قانون الأحوال الشخصية يحدد قواعد الميراث التي تتبع مبادئ الشريعة للنساء المسلمات وتعطيهن الحقّ في الميراث، ولكن وفي كثير من الأحيان يرثن أقلَّ من الرجال؛ إذ ترثُ البنات نصف الحصة التي يرثها الأبناء الذكور.
حزمة تعديلات مهمة ومنصفة
أقرّ مجلس الشعب في جلسته الثامنة من الدورة العادية التاسعة للدور التشريعي الثاني، المنعقدة يوم الثلاثاء بتاريخ 5 شباط/فبراير 2019، مجموعة من التعديلات المهمة طالت العديد من مواد قانون الأحوال الشخصية السوري، وكانت في غالبيتها تتعلق بحقوق المرأة والطفل، ومنها: تعديل سن الزواج إلى 18 سنة لكلا الجنسين بدلاً من 17 سنة للمرأة، وإعطائها حق الولاية على أطفالها. كما مكّنت التعديلات الجديدة على قانون 1950 من وضع شروط في عقد الزواج تضمن حقها في العمل، ومنع زوجها من الزواج بأخرى، ورفض الإقامة مع زوجة ثانية، فضلاً عن اعتماد البصمة الوراثية "DNA" لإثبات نسب الأطفال. كما أتاحت التعديلات للزوجين حق طلب التفريق عند وجود العلل المانعة، وتمنع الولي أن يزوّج ابنته دون موافقتها الصريحة، حتى لو كان يملك وكالة منها، كما أصبحت الولاية للزوجة على أبنائها القصّر بعد زوجها، وأن يصبح المهر مراعياً للقوة الشرائية عند استحقاقه أو طلبه.
تكمن أهمية هذه التعديلات بأنها جاءت تلبية لحاجات المواطنين والمجتمع، واستجابة للمتغيرات التي طرأت على الحياة الاجتماعية بعد مرور أكثر من نصف قرن على القانون المعمول به، فضلاً عن توافقه بعد التعديل مع الدستور والتشريعات الوطنية والدولية. ولعل الأهم في التعديل أنه راعى العدالة الجندرية وأسهم في وضع تشريعات غير تمييزية رغم زعم البعض أن التعديلات تُعظّم من حقوق المرأة، أو المزاعم الأخرى بأن التعديلات أقل من المتوقع. لكن في الحالين، هي خطوة مهمة وبالاتجاه الصحيح لتحقيق المزيد من مؤشرات العدالة الجندرية. فالتشريع مدخل أساس للمساهمة في تطوير المجتمع بكل فئاته، وهو أحد الميكانزمات اللازمة للنهوض بواقع المرأة وتعزيز مكانتها ومشاركتها في عملية التنمية البشرية[3].
بينما تتصف قوانين العمل إلى حدٍّ كبير بإنصاف المرأة وخصوصاً حقّها في الأجر المتساوي عن ذات العمل الذي يقوم به الرجال، كما تمنع المادة 67 من قانون العمل فصل المرأة من العمل. وتمنح المرأة إجازة أمومة مدفوعة الأجر. وتبقى بعض القيود القانونية على عمل النساء لتحدّ من مشاركتهن.
هذا، وبوجهٍ عامٍّ، يمكنُ إجمالُ الأسباب التي مازالت تعيق الوصول للعدالة الجندرية بجوانب محدّدة وفق الآتي:
ضعف تطبيق القوانين.
غياب تشريعات وعقوبات كافية لردع الرجال من ارتكاب أعمال عنف ضد النساء.
تعديل قوانين الأحوال الشخصية التي تتطلب إصلاحاً لتتوافق مع اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وتتواءَمُ مع الاتفاقيات الدوليّة ذات الصلة التي صادقت عليها سورية، وبما يلبي الاحتياجات الحالية للنساء والفتيات.
إزالة التناقضات والازدواجية الموجودة في بعض القوانين، فعلى سبيل المثال، بينما أعطى الدستور والتشريعات المدنية المرأة الأهلية الكاملة وحقّ العمل وحقّ إبرام العقود بدون أي شروط، بقيت قوانين الأحوال الشخصية تعامل النساء كقاصرات يفتقرن إلى الأهلية القانونية والقدرة على ممارسة العديد من الحقوق[4].
لكن، ومع أهمية التركيز على المدخل القانونيّ والتشريعيّ، من أجل تحقيق مستوى أعلى من العدالة على صعيد النوع الاجتماعيّ، إلا أنَّ هذا المدخلَ لا يكفي وحده لمعالجة أشكال الخللِ والتمييز والاستعباد والتهميش وصيغ العنف الرمزيّ الممارسة بحقّ النساء، ما يعني أننا بحاجة إلى مداخل أخرى، كالمدخل الاجتماعيّ، والمدخل الاقتصاديّ، والمدخل الثقافيّ، وصولاً للمدخل السياسيّ، وتمهّد هذه المداخلُ مجتمعةً لتغيير السياسات الجندرية اللازمة للوصول إلى عدالة النوع الاجتماعيّ.
كما تُعَدُّ هدفاً من أهداف الإنمائية الألفية، ومؤشراً أساساً للتنمية البشرية، إذ بوساطته يتمُّ حسم درجات أو فرض ما يشبه التخفيض على سلم التنمية بالنسبة للبلدان التي مازالت تمارس التمييز الجندري، إذ مَثَلُهُ مَثَلُ التسبّب في تلوث البيئة.
هذا، ونظراً إلى أنَّ تمكين المرأة بمُخْتَلِفِ أشكاله هو الضمانة الفعلية لعدم تعرضها لأشكال التمييز القائمة على النَّوع الاجتماعيِّ، وهو الذي يوسع فرصها في المشاركة في الحياة العامة والعملية التنموية، ويضمن عدم تعرضها للاستغلال أو التهميش، سواء داخل الأسرة أو في المجتمع، فإنَّ تمكين السوريات وتوسيع فرص مشاركتهن يصبح ضرورة تمليها ظروف وتبعات الحرب والأزمة المديدة، والتي أرخت بثقلها ونتائجها على شرائح وفئات المجتمع السوريّ كافةً، وكان للنساء نصيبٌ واسعٌ بوصفهن من الفئات الهشّة والأكثر ضعفاً، إذ عانين كأمهات وزوجات وبنات من ظروف معيشية ضاغطة، وعلى الأخصّ: النسوة اللواتي يُعِلن أسرهن، وزوجات الشهداء وأولادهم، فضلاً عن غياب الأمان، وصيغ الاعتداء التي تعرضت لها النساء في مناطق سيطرة الجماعات الإرهابية المسلحة، مع انتشار ظواهر الزواج المبكر والخطف والقتل والاعتقال والتضييق على حرية الحركة والعمل، وتحصيل سبل العيش.
أي إننا أمام السؤال عن كيفيات إشراك ودمج النساء في عملية التنمية، ذلك أن تجارب البلدان التي عاشت أزماتٍ وحروباً، قد بيّنت الدور الحيوي للمرأة في مراحل ما بعد الحرب، بما في ذلك دورها الاقتصاديّ والاجتماعيّ المتوقع الذي سيتنامى تحت ضغوط متطلبات العيش، لكنه سيتحول إلى نمط وصيغة للتكيُّف الإيجابيّ القابل للانتشار، بسبب الأدوار والوظائف والمهام الجديدة التي تقوم بها النساء داخل الأسرة وفي المجتمع، مع ما يرافق ذلك من كسر للصور النمطية السائدة عن المرأة، وتوسيع فرصها للمشاركة الفاعلة في العمل والتعليم، وتحسين سبل العيش وتربية الأجيال التي ستبني سورية المستقبل.
Views: 6