يعيش العالم اليوم البربرية والفوضى التي تصاحب انهيار الامبراطوريات.. منطقتنا على فوهة بركان.. وقد تتحول الحروب من الوكالة الى الاصالة (وتصفية النهائي) ستكون عندنا
د. عبد الحي زلوم
في عصر العولمة والذكاء الاصطناعي والتحولات العميقة والقائقة السرعة لا يمكن أن “نفهم ماذا في روما ما لم نفهم ماذا في البرازيل”. وعليه يجب أن نفهم ماذا يحدثُ في الولايات المتحدة كي نفهم ما يدور حولنا. لكن القاسم المشترك أن جميع الدول المعنية تجابه تحديات اذا تحولت الى حروب فستكون حروب وجود يكون طرفاها إما قاتلٌ أو مقتول. فلنبدأ بالقوة الاكثر تأثيراً في العالم أي الولايات المتحدة الامريكية .
كانت الانتخابات التي اتت بدونالد ترامب وبطانته انقلاباً بكافة المعايير بين جناحين داخل الدولة العميقة، احدهما بدأ بالتكيف مع محددات العولمة باعتبار أنه ليس بالامكان افضل مما كان ونخبة هذا الجناح كانت هي المستفيدة من العولمة على كل حال. كان هناك جناح أخر يرى ان العولمة قد وصلت الى طريق مسدود ، وعليه يجب القيام بعملية استباقية قبل أن تتحول حركات الاحتجاج الى ثورة مثل حركة (احتلوا وول ستريت). فالوظائف انتقلت وكذلك الاستثمارات والصناعات الى الخارج ، حيث العمالة الرخيصة ، والاسواق، فخسر العمال وظائفهم، ونافست البضائع المستوردة مثيلاتها المحلية ، وازداد العجز التجاري وزادت المديونية الامريكية الى ارقام فلكية غير مسبوقة ، وتدهورت البنى التحتية ، واصبحت صناعة الولايات المتحدة الرئيسية هي طباعة الاوراق لتحويلها الى دولارات لشراء بضائع مستوردة ،ثم استرداد تلك الدولارات كسندات خزينة اي كدين على الحكومة الامريكية . تم نقل فوائد العولمة الى حوالي 400 شخص داخل الولايات المتحدة اصبحوا يمتلكون ما يمتلكه 150مليون امريكي.
زورت الدولة العميقة اسباب مظالم هؤلاء المهمشين عن الاسباب الحقيقية بما تملكه من وسائل غسيل الدماغ ، بإعتبار أن المشكلة ليست من العولمة أو إصحاب رؤوس الاموال وإنما هي من العمالة الوافدة من المكسيك والدول اللاتينية وأن حلها بسيط : نبني لكم جداراً على حدود المكسيك. واذا كان الخلاص صعبا في الدنيا فسنستعجل لكم أيها الصهاينة البروتستنت قدوم يوم الخلاص يوم القيامة، وذلك بدعم اسرائيل لاستعجال قدوم المسيح. واذا كانت سياستنا ضد المسلمين قد اخافتنا من ارهابهم داخل بلادنا فسنمنعهم من الحصول على تأشيرات دخول للولايات المتحدة. الم تكن هذه التفاهات هي اجندة ترامب الانتخابية؟ كان اول ما اعترفت به هيلاري كلينتون في خطاب اعترافها بالهزيمة قولها ان اكبر مفاجاة لها هو عمق انقسام المجتمع الامريكي! وهكذا جاء الطرف الاخر من الدولة العميقة الامريكية بدونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة لاعادة هيكلة مرحلة ما بعد العولمة.
التحولات العميقة التي جرت وتجري داخل الولايات المتحدة وخصوصاً سياساتها الاقتصادية المناهضة للعولمة وسياستها الدبلوماسية التي اخذت مساراً وقحاً بعد استنفاذ كل قوتها الناعمة ، لجأت لوضع العقوبات الاقتصادية بشكل مخالف تماماً لمبدأ التجارة الحرة، و لفرض رسوم جمركية وقوانيين حمائية على الحلفاء قبل الاعداء كأوروبا والصين . وانسحبت من الاتفاقات الدولية سواءً من اتفاقية باريس عن المناخ أو الاتفاق النووي مع ايران، وهكذا اصبحت دولة مارقة بكافة المقاييس، بما في ذلك استعمال اسلوب المافيا بفرض الاتاوات لحماية الانظمة حتى دون أن تترك ورقة توت لتغطية العورات! كما ضربت عرض الحائط بكافة القوانيين الدولية وقرارات الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي وخصوصاً بالنسبة للقضية الفلسطينية، وقامت وتحاول القيام بالانقلابات الفجة كما في فنزويلا . واشعلت حرباً باردةً مع روسيا والقادم اعظم …
افضل وصف لحالة الولايات المتحدة اليوم هو حالة الاضطراب التي تسود الامبراطوريات حين تفوق طموحاتها في الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية امكاناتها ، وهذا هو الحال مع الولايات المتحدة بالرغم من امكانياتها غير المسبوقة بالتاريخ. كتاب بول كندي (صعود وسقوط القوى العظمى) يصف الحالة الامريكية اليوم بدقة. وقد كان المؤرخ اريك هوبساوم أكثر وضوحاً في محاضرة له في جامعة هارفارد سنة 2006 إذ قال إن انهيار الامبراطورية الامريكية هو امرٌ حتمي وسيصاحب سقوطها فوضى وبربرية حسب تعبيره . وهذا ما يحدث للولايات المتحدة والعالم اليوم . ويمكنني أن أقول أن ترامب هو غورباتشوف الولايات المتحدة والتي ستصل لما وصلت اليه امبراطورية الاتحاد السوفياتي.
دعني أدعي أن كتابي نذر العولمة قد تنبأ في نسخته الاولى 1998 بان العولمة ستفشل وأن كتابي (امبراطورية الشر الجديدة سنة 2003 ) وكتابي ازمة نظام – الرأسمالية والعولمة في مأزق -سنة 2008 ، قد أعادا تأكيد ما كنت توصلت اليه في كتاب نذر العولمة. اذن فالنظام السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة يعاني اليوم من ازمة وجود .في الوقت نفسه اصبح النظام الرسمي العربي منتهي الصلاحية يعاني ايضاً من ازمة وجود.
حيث أن النظام الرسمي العربي كان سراً واليوم علناً هو خط الدفاع الاول عن الكيان الصهيوني بل هو في حقيقته جزء منه . فإن هذا الكيان يعاني ايضاً من ازمة وجود في الوقت الذي يبدو اليوم وكأنه في أوج عظمته حيث يبدوا وكانه سائرٌ الى النجاح لتحقيق مشروعه لاسرائيل الكبرى! واذا قيل سابقاً أن توني بلير كان الكلب الصغير (POODLE) لجورج دبليو بوش اصبح ترامب اليوم هو (POODLE) نتنياهو. و اصبح البيت الابيض (مستوطنة اسرائيلية). اعطى ترامب كل ما طلبه نتنياهو ، اعطاه القدس ، اعطاه الجولان وسيعطيه الضفة الغربية وكل شيئ اخر يطلبه في صفقة القرن أو في غيرها لان النظام العربي قد اصبح معدوم الوزن بل انقلب بعضه من مطبع الى متآمر. لا أود أن أكرر عبارة أن من لا يملك اعطى من لا يستحق ، لكنني اشبه اعطيات ترامب لنتنياهو تماماً بالمحتال الذي باع الصعيدي شبكة المترو بالقاهرة ب5 جنيه. وصفقة القرن كصفقة المحتال والصعيدي والصفقة ستذهب الى مزبلة التاريخ عند أول (هبة ريح). فالوضع الراهن آيلٌ للسقوط!
أزمة الكيان فعلاً هي كما يراها الكيان أي هي ازمة وجود لا أزمة حدود .استراتيجيته الامنية قد تم نسفها من اساسها فهي تعتمد على الحروب في اراضي الغير , لكن حروب اليوم ستكون داخل الارض المحتلة . وكذلك يعتمد الكيان على الحروب القصيرة وقد انتهى امرها ,فحروب غزّة زاد بعضها عن 50 يوماً وحروب جنوب لبنان زادت عن 33 يوماً والقادم اعظم . في حروب الجيوش العربية الخاسرة لم تصل رصاصة أو قنبلة مدفع واحدة داخل الكيان المحتل. الا ان كل شبر من كيانه قد اصبح اليوم هدفاً ممكناً واصبحت المقاومة قادرة ان تحطم الموانئ والمعسكرات ومحطات الكهرباء وكل البنية التحتية للكيان . وبالمصداقية المعروفة عن الشيخ حسن نصر الله، فقد قال في خطابه الاخير أن الفرق والالوية الاسرائيلية التي ستدخل الى لبنان سيتم تدميرها فصدقوه. اذن فمشكلة الكيان هي مشكلة وجود .
مشكلة الولايات المتحدة وحلفائها المأزومين انهم يعيشون خارج التاريخ . كان الدور الوظيفي لايران الشاه أن تكون شرطي الخليج لضمان نهب ثروات دول الخليج, بالاضافة الى تقديم ثروات ايران نفسها الى الولايات المتحدة. كانت طهران وكراً لـCIA والموساد. وعند ولادة الثورة الاسلامية سنة 1979 تم شن حرب ال8 سنوات العراقية الايرانية بتمويل خليجي زاد عن 100 مليار دولار ! والكل يعرف نتائجه الكارثية بحيث أن افلست الخزينة العراقية مما ادخل العراق في مغامرات غير محسوبة ومصائد مكنت اعداءه منه . الانظمة الشمولية والتي تدفع الجزية للولايات المتحدة لحمايتها تحت هذا الاسم او ذاك ترى في جمهورية ايران الاسلامية عدواً. أما تحالف بعض الانظمة في الخليج مع عدو شعوبهم الحقيقي أي الكيان الاسرائيلي فأصدق وصف له وهو المثل الشعبي عن التقاء مصالح : (المتعوس مع خايب الرجى) وهو تحالف مع اعداء الله يخالف كل شرائع السماء ومصيره الى الفشل ولو مع الاسف بثمن غالي .
أما عن فلسطين فلقد وصلت سلطة عباس الى نهاية مدتها . تم زرع مستوطنات اكلت اكثر مساحة الضفة الغربية. وتم زرع 600 الف مستوطن بها منذ اوسلو. لم يستحي عباس بقيامه تجنيد 40000 من عساكره ليقوموا بحراسة الاحتلال ومستوطناته ومستوطنيه بل الادهى أنه لم يخجل ان يقول ان الدفاع عنهم هو امر مقدس! نحن نعرف أن كتابه المقدس ليس قرآناً. وسيتم تصديره الى خارج الضفة عما قريب فقد انتهت مدته (Mission Accomplished).
بالنسبة للاردن فإنه ايضاً يجابه مشكلة وجود! وقد بينت ذلك بمقال في رأي اليوم بتاريخ 22/05/2018 عنوانه ” الاردن ونظامه مستهدفان” ويمكن الرجوع اليه، وملخصه اذا كانت الولايات المتحدة خصماً فلا يمكن ان يكون الخصم والحكم واحد! ما يقلقني بل ما يخيفني هو الخطأ في الحسابات من اي طرف لا سمح الله مما سيؤدي الى عواقب غير محسوبة لا يريدها النظام ولا الشعب !
واخيراً كيف يمكن لصفقة قرن ان تعيش وفي فلسطين مقاومين مثل رجل الدين المقدسي الراهب مانويل مسلّم الذي وجه هذا النداء من القدس يناشد المطبعين أن يتقوا الله في قدسنا ومقدساتنا قبل ان ينتقلوا من التطبيع الى التآمر:
“يا أيها المتهافتون المتخاذلون ويا حكام العرب الساعين إلى التطبيع مع إسرائيل اسمعوا: نحن _الفلسطينيين المسيحيين سلمنا أجدادكم المسلمين الشرفاء مفاتيح فلسطين والقدس. وتسلمنا منهم العهدة العمرية. نحن ثَبَتْنا أمناء على العهد وسنبقى كذلك؛ أما أنتم فماذا صنعتم بتلك المفاتيح؟ ولمن سلمتموها؟ نحن، إلى أيدي أمير المؤمنين الطاهرة (عمر بن الخطاب) سلمناها، وأنتم تُسَلّمونها اليوم إلى أيدي الصهاينة الملطخة بدماء المسلمين والمسيحيين. أنتم لا تستحقون فلسطين، ولا القدس أرض الإسراء والمعراج. لأنكم بالتطبيع طمستم وأهملتم آية الإسراء الكريمة كأنها لم تَعُد جزءا من عقيدتكم الإسلامية؛ لكنها كذلك. هذه خيانة إيمانية ووطنية وإنسانية. هل تريدون أن تحموا إسرائيل؟ احموها. امنحوها صكوك غفرانكم وثبّتوا وجودها بالتطبيع والسلام. لكننا نعدكم أن اسرائيل سترحل عن أرضنا مهيضة الجناح ذليلة بسواعد المقاومين الشرفاء. سترحل. سترحل. سترحل. أليس المسلم من سَلِم الناسُ من يده ولسانه؟ نحن أهلكم الفلسطينيين ما سلمنا لا من يدكم التي تُوَقّع على التطبيع وتصافح نتنياهو وليبرمان ولا من عيونكم التي تبكي على بيرس ورابين ، ولا من لسانكم الذي ينعت المقاومين بالمليشيات والإرهابيين. ولا من أخلاقكم لأنكم لا تخجلون أن ترقصوا مع الحخامات وتشربوا نخب القدس عاصمةً للكيان الصهيوني كأنكم تعترفون بها عاصمة لإسرائيل قبل ترامب وتوقعون قبله على صفقة القرن التي تشطب من التاريخ قضيتنا الفلسطينية وتتجاهلون حق العودة وآلام المهجّرين والمشتتين والمحاصرين. أتطربون على أنغام النشيد الإسرائيلي هتفا؟ اطربوا. إن الزمن بطيء على من ينتظر؛ وطويل على الباكين؛ لكنه قصير جدا على من يفرحون.” نحن انتظرنا وبالتطبيع اليوم تؤجلون عودتنا وتحريرَنا. وبكينا وأطلتم حزننا ودموعنا؛ أما فرحُ عدونا الصهيوني ومن يطبّعون ويتعاونون معه فسيكون قصيرا جدا بإذن الله. عودوا إلى فلسطينكم أيها الحكام العرب ؛ عودوا إلى حيفا ويافا والرملة واللد وبيسان وبئر السبع فهي لكم ولا تزال تنتظركم. عودوا إلى غزة وفكوا حصارها. عُدْ الى قدسك يا فاتح القدس وقارئ القرآن، فهي تبكي أبناءها الشهداء وتستغيث تطلب حماية أهل سلوان والمهجرين والمهدمة بيوتهم. واذكروا أن ما يجري في القدس سيجري في مكة والمدينة ويثرب.” وهذا وعد هيرتزل أن يهدم كل الاماكن المقدسة لدى الشعوب في القدس ومكة والمدينة لأنها أماكن وثنية. كل فلسطين لنا من بحرها إلى نهرها ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش. وليس للغازي ذرة تراب واحدة متنازع عليها معنا. التطبيع لن يتوقف ولا ترامب ولا نتنياهو ولا أوسلو. العصيان المدني السلمي أولا عليهم جميعا هو الذي يكبح جماحهم. نحن ننادي به. ونناديكم أيها الشرفاء أن تدعموه وتساندوه بتأسيس رابطة تمثل المسلمين والمسيحيين ومحبي السلام تحت اسم رمزي” التين والزيتون” لدعم القدس وغزة. لبيك يا قدس. لبيك يا أقصى. لبيك يا مهد المسيح. ويا كنيسة القيامة. لبيك يا حيفا ويافا وغزة. الله أكبر.الله أكبر. الله أكبر. والسلام عليكم”
مستشار ومؤلف وباحث
Views: 5