ترافق إعلان الانسحاب الأميركي من اتفاقية الصواريخ مع دعوتها لكل من روسيا والصين إلى نظام جديد للرقابة على التسلح، بحيث عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الإدارة الأميركية بمهمة فتح صفحة جديدة في مجال الحد من الأسلحة، وبدء حقبة جديدة تذهب أبعد من المعاهدات الثنائية السابقة الموقعة في الماضي، بما تراه ضرورة لـ»استحداث نظام جديد للرقابة على الأسلحة في العالم»، وصولاً إلى المطالبة بجعل معاهدة الصواريخ النووية معاهدة جماعية وليست ثنائية لضمّ الصين إليها، والتي لم توقع على الاتفاقية، التي تم توقيعها قبل حوالي ثلاثة عقود.
وأشارت الخارجية الأميركية في بيانها الذي كرّسته لانسحاب واشنطن من المعاهدة المبرمة مع موسكو: «من الآن فصاعداً، تدعو الولايات المتحدة روسيا والصين للانضمام إلينا في استثمار هذه الفرصة لتحقيق نتائج أمنية حقيقيّة لشعوبنا والعالم بأسره»، علماً أن موسكو دمّرت كامل مخزونها من هذه الأسلحة تحت رقابة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وقضت على كامل مخزونها منها خلافاً لواشنطن التي لا تزال تحتفظ بكميات كبيرة وتتأخر في إتلاف ما لديها منها.
ورغم أن السبب الظاهر لخروج واشنطن من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى جاء تحت مسمّى «انتهاك موسكو لبنود المعاهدة» إنما السبب الخفي يكمن وراء رغبة أميركية في منافسة الصين لبناء قدراتها الصاروخية، والتي كانت محظورة، وفقاً للاتفاقية. وبدا الأمر جلياً بإعلان البنتاغون أمس أنه بدأ في عام 2017 أعمال تطوير الصواريخ الأرضية المجنحة التي كانت محظورة وفقاً لمعاهدة التخلص من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى.
وبالتالي امتلاك أميركا لقدرات عسكرية تمكنها من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية في أي حرب مستقبلية، وهذا الأمر يمثل أهمية أميركية عظمى بالنسبة لأي مواجهة قد تقع مع الصين وهذا ما كان ضمن الخطة الأميركية في الانسحاب من المعاهدة المذكورة فهي على يقين بأنّها في حال لم تطوّر أسلحتها، وبالتالي تنسحب من المعاهدة التي تقيّد إجراءاتها الصاروخية، فإنّها لن تمتلك القدرة على ضرب قواعد الصواريخ المضادة للسفن، الموجودة داخل الأراضي الصينية، لا بل ستقتصر قدراتها العسكرية على تلك القواعد الموجودة في اليابان، ما يجعل إرسالها سفناً حربية إلى المياه القريبة من سواحل الصين نوعاً من مخاطرة غير المحسوبة النتائج..
وإذا ما استبعدنا خيار المواجهة العسكرية، فإننا بالتالي أمام سيناريو دخول العالم في حقبة جديدة ليس فقط عنوانها المنافسة التجارية إنما تُضاف إليها منافسة استراتيجية ما بين الولايات المتحدة والصين، وليست «رد فعل على الأعمال الروسية»، كما تقول الإدارة الأميركية، فكل الأحداث التي سيطرت على المشهد الدولي توحي بأنّ ما تقوم به واشنطن هو رسم استراتيجيات وحياكة مخططات لاحتواء التفوق الصيني الاقتصادي، المترافق مع «طريق الحرير» والاستراتيجية لمجاراته في سباق للتسلح وتنافس في المجمع الصناعي العسكري..
كذلك، لا يهم الولايات المتحدة نشر الصواريخ في أوروبا وتهديد روسيا، بقدر ما يهمها تطوير قدراتها الصاروخية لمواجهة القدرة الصينية التي باتت تهدّد وجودها في السوق العسكرية، وليس هناك من دليل لوجود هذه المنافسة أكثر من إحصائية أجراها معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام SIPRI، حيث تقدّمت فيها الولايات المتحدة الأميركية في الإنفاق العسكري البلدان الأكثر إنفاقاً لعام 2018 بمبلغ وصل لـ649 مليار دولار، وجاءت الصين في المرتبة الثانية بحجم إنفاق بلغ 250 مليار دولار، لتنضمّ إلى المجمع الصناعي العسكري بحضور قويّ لا تنازع فيه.
كما يُرجِع المعهد سبب ارتفاع مستوى الإنفاق العسكري العالمي في عام 2018 بشكل رئيس إلى «الزيادات الكبيرة في الإنفاق من قبل هذين البلدين»، حيث بات الإنفاق العالمي الآن أعلى بنسبة 76 في المئة من انخفاضه في فترة ما بعد الحرب الباردة في عام 1998. كما أن التوترات بين الصين والولايات المتحدة هي محرّكات رئيسية لاستمرار نمو الإنفاق العسكري لكلتيهما، حيث شكلتا نصف الإنفاق العسكري العالمي.
إنّ هذا الجموح الصيني في الإنفاق العسكري يبدو السبب الكامن وراء انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية وجعل عودتها مشروطة بضم الصين إلى تلك المعاهدة. فسباق التسلّح لاح نجمه منذ أن قررت الصين في العام 2013، تخصيص 1.9 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي كل عام للجيش ليظهر أن النمو في الإنفاق العسكري الصيني يتبع النمو الاقتصادي الشامل للبلاد.
وبما أنّ الصين، باتت ثاني أكبر منفق في العالم، بزيادة نفقاتها العسكرية بنسبة 5.0 في المئة لتصل إلى 250 مليار دولار في عام 2018. وكانت هذه هي السنة الرابعة والعشرين على التوالي في زيادة الإنفاق العسكري الصيني. كان إنفاقها في عام 2018 أعلى بنحو 10 أضعاف من عام 1994، وكان يمثل 14 في المئة من الإنفاق العسكري العالمي.
كما أنّ الصين وابتداءً من العام 2013، خصّصت كل عام 1.9 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للجيش، ليظهر أن النمو في الإنفاق العسكري الصيني يتبع النمو الاقتصادي الشامل للبلاد. أضف إلى ذلك، العرض العسكري البحري الذي أقيم بمناسبة الذكرى الـ70 لتأسيس السلاح البحري لجيش التحرير الشعبي الصيني، وبرزت فيه المدمّرة الصينية «تايب 055»، وهي الأكبر من مدمرات صينية حديثة أخرى، مثل تايب 052، وهو ما يشكل تطوراً في الصناعات الدفاعية الصينية. ووفقاً لموقع ميليتيري ووتش ماغازين إن «هذه المدمّرة قد تكون أعظم إنجاز تكنولوجي للبحرية الصينية وتتفوّق على مثيلاتها من المدمرات اليابانية والأميركية».
وما يغيب عن الإدارة الأميركية هو شد العضد الآسيوي الأوراسي، فرغم انتهاجها سياسة «فرق تسد» مع دول «بريكس» و»آسيان» و»الاتحاد الأوروبي» و»الشرق الأوسط» إلا أن منسوب القيمة المصلحية بات طاغياً في أيديولوجيات هذه الدول وباتت تعلم كيف تحكم وفق مصلحتها ليبدو جلياً في انتقاداتها للتصرفات الأميركية بالقول تارةً والفعل تارةً أخرى، ما يجعل النظام العالمي الذي تحكمه الفوضى الأميركية واقترابه من سباق تسلح إقليمي وعالمي إنما ستتبلور معالمه نحو تعددية قطبية تحكمها إرادة تلك الدول وفق مصالحها لتدرك الإدارة الأميركية لاحقاً أن استراتيجيتها هي من ساهمت في أفول قيادتها للعالم
Views: 3