مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات
تتجاوز الآمال المعلقة على البقاء الأمريكي في سورية إمكاناته الفعلية،
فيرى باحثون أن هذا الوجود سيمنع أيّة عودة محتملة لتنظيم “داعش”، وسيحلّ
الصراع القديم بين الكرد والأتراك، فيحصل الكرد على حكم ذاتي، وتُلجم مطامع
أردوغان ونزعته الاستعمارية، كما يرون أن هذا الوجود سيشكل ضغطاً على دمشق
ويدفع بالتالي إلى تسوية سياسية في البلاد، ويحدُّ كذلك من النفوذ الروسي،
وتصلُ بهم التطلعات إلى إنهاء الوجود الإيراني تماماً في سورية.
ما يطرح سؤالاً بديهياً، لِمَ لم يتحقق أيّ من هذه الطموحات، مع العلم أن
الولايات المتحدة موجودة في سورية، رسمياً على الأقل، منذ أيلول/سبتمبر
2014، ومعها في “التحالف” ثمانون دولة أخرى؟
التمسك بوجود أمريكي عسكري في سورية واعتباره الدواء الشافي لكل المشكلات،
والسبيل الأنجع لتحقيق مصالح الولايات المتحدة، يعني في ما يعنيه أن أمريكا
وباحثيها لم يتعلموا شيئاً من دروس الحرب في سورية.
تركيا، على صعيد موازٍ، لا يبدو أنها تستفيد كذلك من دروس الأزمة السورية،
أو أية صراعات خاضتها في تاريخها الحديث والمعاصر. فلازالت تختبر
بتصريحاتها وتهديداتها ومطالباتها وحتى صفقاتها صبر القوتين العُظميين،
روسيا والولايات المتحدة، صبرٌ قد لا يطول. وإذا ظنَّ أردوغان أن تدخلاً
عسكرياً أبعد في سورية هو ورقة يضغط من خلالها على الفواعل الآخرين، فهو
أبعد ما يكون عن الصواب. روسيا تحفظ ماء وجه تركيا عندما تمنعها من مزيد من
التدخل، والأكراد مستعدون اليوم لتوجيه كلّ قوتهم ومقدّراتهم وكل ما كسبوه
من خبرة لقتال تركيا، وربما تجدر الإشارة هنا أنه على الكرد أن يكسبوا
قبول جيرانهم العرب، وقبله رضا دمشق والتصالح معها، وإعادة سيطرة الدولة
على كامل أراضيها، ومشاركة بل وحتى نقل مسؤولية الدفاع عن هذه الأراضي.
لم نتحدث بعد عن أمريكا التي ضاقت ذرعاً بالتعنت التركي، ولا عن دمشق.
ويمكن هنا التعريج على موضوع اللاجئين، الممكن اعتباره ورقة بيد تركيا،
تتجاوز بأهميتها موضوع التهديد بتدخل عسكري، لكنها مضمرة لا تلوّح تركيا
بها صراحةً، لكن الأفرقاء كلهم يدركون وجودها، فالتلويح بها مخالف لقوانين
وأعراف دولية، قد لا تحترمها تركيا، لكنها لن تغامر بخرقها، ولذلك تحافظ
على أحوال اللاجئين ضمن “الحدِّ الأدنى”: الأجور بالحد الأدنى ومثلها
التعليم والرعاية الصحية والأمان الاجتماعي وتصريحات العمل، وكذلك العمل
الرسمي… فإدماج اللاجئين هؤلاء في المجتمع التركي، رغم أهميته الاقتصادية
الكبيرة بالنسبة لتركيا، سيفقدهم الأهمية كورقة سياسية.
وعليه يظلُّ التدخل، وإن لوحت به تركيا وتوقعه باحثون غربيون، مستبعداً،
إذا افترضنا أن المنطق هو ما يحكم القرارات المتخذة. وأيّ تعويل تركي على
روسيا لن يكون مجدياً على المدى البعيد، فربما تعيد روسيا اليوم رسم معالم
العلاقات الأمريكية التركية، وربما تكون صفقة أنظمة الدفاع الجوي S400 نقطة
فاصلة في هذه العلاقات، لكن التالي من الخطوات مازال ضبابياً بالنسبة
لتركيا ثانياً ولروسيا أولاً.
هل التقرب من روسيا هو هدف أنقرة، أم أنها تعتمده وسيلة لاستفزاز الولايات
المتحدة، ولتحصيل مزيد من التنازلات فيما يتعلق بسورية والكرد على وجه
الخصوص، أو غيرها من القضايا. خروج تركيا من الحظيرة الغربية الأطلسية أمرٌ
مستبعد، باعتراف كثيرين، ما يطرح تساؤلاً مهماً عن أهداف روسيا البعيدة من
هذا التقارب مع تركيا، وهل له آفاق يراها صانع السياسة الروسي، أم يتعامل
معه على أنه مرحلي وبالتالي يحاول في “شهر العسل” هذا تحصيل ما يمكن
تحصيله، قبل تغيير آليات التعاطي.
وأخيراً، من مسافة غير بعيدة، تراقب إيران، وترصد كلّ التفاعلات الأمريكية
والتركية وحتى الروسية، وتقارب دبلوماسياً في حين، وتحدياً في حين آخر،
مدركة مكامن قوتها وواثقة بأهميتها الاستراتيجية في منطقة تتشابك فيها
الخطوط الاستراتيجية وتتعقد التكتيكية، وتختلف الديناميات في التعامل مع
القضايا المتشابهة، والعكس يصحُّ كثيراً. فتتقارب إيران مع تركيا طوراً،
عدوتها في سورية، ومع روسيا، صديقة “إسرائيل”، وتختلف مع الاثنتين في حالات
كثيرة مع المحافظة على قنوات مفتوحة، ولا تتردد في احتجاز ناقلة نفط
بريطانية رداً على احتجاز ناقلتها في جبل طارق، مع المحافظة دائماً على
ثوابتها الأساسية، عداء “إسرائيل”، تحدي الولايات المتحدة وحتى الغرب
بالعموم، وصداقة دمشق.
مرحلة ما بعد الحرب ستكون الفيصل في ما يرتبط بنجاح استراتيجيات إيران
ومداه، وفي معرفة مَنْ مِنَ الفواعل استطاع في الحقيقة الاستفادة من دروس
الحرب في سورية.
تقرؤون في هذا العدد من تقرير «سورية في عيون مراكز الدراسات العالمية» أهم
منشورات مؤسسات التفكير الكبرى المتعلقة بالحدث السوري، والصادرة في شهر
تموز/يوليو 2019، مقسمة على المحاور الآتية:
المحور الأول- بين الكرد والأتراك: لا وساطة أمريكية
يغطي هذا المحور موضوع المعضلة التي تعيشها الولايات المتحدة في شمال شرق
سورية، نتيجة عدم قدرتها على اجتراح حلول توافق ما بين شريكها الكردي في
القتال على الأرض، وحليفها التركي المتعنت والراغب بتحصيل مكانة أكبر في
التوازنات الدولية.
المحور الثاني- المراوغة التركية: نقاط القوة والضعف
يعرض هذا المحور لما تراه تركيا أوراق قوة في يدها، تستطيع من خلالها الضغط
على فواعل الحدث السوري بالعموم، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، من
قبيل تحسين علاقاتها مع روسيا، أو اللاجئين السوريين على أرضها، وبعض
السيناريوهات المترتبة على المقاربة التركية للأمور.
المحور الثالث- إيران في الشرق الأوسط: دبلوماسية التحدي
يتحدث هذا المحور عن علاقة إيران مع روسيا، وأطوار تقاربها أو تباعدها، على
اعتبار أنها عامل مؤثر في مسير كثير من الأحداث في سورية والشرق الأوسط،
خصوصاً وأن الخط البياني للتوتر بين إيران وأمريكا وحتى الغرب آخذ في
التصاعد، واحتجاز ناقلات النفط المتبادل بين إيران وبريطانيا أحد تجلياته.
المحور الرابع- لِمَ الحديث عن “اتحاد مشرقي” الآن؟
يتناول المحور الأخير في مقالته الوحيدة موضوع “اتحاد مشرقي” يجمع دول بلاد
الشام كلها، يجعلها المركز التجاري الرئيس لمرور البضائع بين الصين من جهة
وأوروبا وشمال أفريقيا من الجهة الأخرى. موضوع قد يحمل نوايا مضمرة تتجاوز
التجارة والاقتصاد.
Views: 3