بقلم : علي وجيه
شكّلت العمليات التجسسية والاستخباراتية إغراءً للدراما بأنواعها عبر التاريخ من خلال أعمال مهمة حظيت بجماهيرية واسعة في العالم (جيمس بوند) والوطن العربي (رأفت الهجّان)، وتالياً ظهر نوع درامي جديد سمّي «دراما الجاسوسية» انقسم النقاد حوله بين مؤيد ومعارض، واشتغله العرب لأهداف أيديولوجية ووطنية معينة وسط كثير من الظروف الخاصة والضرورات الأمنية. البداية المصرية في عام 1968، ألقت المخابرات العامة المصرية القبض على عميل للموساد في منطقة «مصر الجديدة» في القاهرة، وكانت الصدمة عندما اعترف العميل أنّه يستقي المعلومات التي ينقلها للإسرائيليين من ألسنة الناس وحواراتهم اليومية! ليدرك جهاز المخابرات المصري حجم التسرّب الهائل في المعلومات والناجم عن جهل عامّة الناس وقلة وعيهم الأمني.. وبدت الأمثلة الواقعية مخيفة، ففي مرة عرف أحد الجواسيس بتحرك فرقة كاملة للجيش من حديث جنديّين في قطار، وآخر عن الغواصات بالاستماع إلى رجل يعمل في قاعدة بحرية لتموين الأسطول، إضافة إلى التسميات الشعبية العابرة كإطلاق اسم (محطة المطار السري) على موقف عادي للحافلات! لذلك -وبرغم أنّ عمل المخابرات يكون سريّاً عادةً- انطلقت حملة وطنية شاملة لتوعية الناس بمخاطر الحديث عمّا يرونه أمامهم من دون حذر، فعُقِدت اجتماعات موسعة مع رجال الدين الذين راحوا يخطبون في المساجد والكنائس، وتمّ حث الأدباء والصحفيين ومؤلّفي المسلسلات والأغاني على إدراج الفكرة ضمن إنتاجاتهم، في توجّه لاستغلال سلاح الدراما في العمل الوطني، وهو ما تمّ بالفعل.. كمال إسماعيل كتب للإذاعة مسلسل (كلاب الحراسة) أخرجه علي عيسى قبل أن يُحوّل للتلفزيون بتوقيع المخرج نور الدمرداش، في حين ألّف محمود صبحي برنامج (عيلة مرزوق أفندي) ورأفت الخياط (البعثة 69)، وقدّم محمد كامل (المصيدة)، وأخرج محمد شرابي عشر تمثيليات لبرنامج (صور من الحياة)، وقدّم علي عيسى برنامجَين هما: (من قصص الجاسوسية) و(الحرب النفسية)، كما ساهم فائق إسماعيل بمسلسلَين: (اللصان والجاسوس) و(لا أسمع.. لا أرى.. لا أتكلم)، ونجحت الإذاعة في ثلاث خماسيات هي: (تذكرة إلى أثينا) لطلعت المرصفي، (كمين) لحسن عبد الله و(صراع حتى النهاية). ومع نجاح الخطوات السابقة انتقل الجهاز إلى العمل على محور آخر هو تصحيح صورة المخابرات لدى الشعب، خاصةً بعد الإخفاق الذريع في هزيمة 1967 الذي أطلق حملة تشهير عنيفة ضد المخابرات المصرية برمّتها استمرت حتى عام 1969، وكذلك التقليل من شأن الجيش الإسرائيلي الذي صوّر نفسه على أنّه الجيش الذي لا يُقهَر، سواء في نفوس الشعب المصري أو حتى داخل إسرائيل نفسها. ماهر عبد الحميد.. العرّاب!! وكان لا بدّ من عمل بروباغندا مضادّة لدعايات الموساد بروح وطنية شعبية خالصة، فتمّت الاستعانة بدايةً بالكاتب الراحل ماهر عبد الحميد الذي كانت له تجربة سابقة مع المخابرات المصرية أوقع خلالها بشبكة تجسس إسرائيلية خطيرة، فنشر أول مرة في مصر وقائع عملية تجسس حقيقية تحت عنوان (قصتي مع الجاسوس) لاقت رواجاً هائلاً، وفي 17- 1-1970 نشر أول مقالاته المتسلسلة على صدر صفحتين متقابلتين من جريدة (أخبار اليوم) التي كان رئيس تحريرها آنذاك إحسان عبد القدوس، ثم أتبعها بسلسلة أسبوعية أخرى بدأت في 25-5-1973 على صفحات جريدة (الأخبار) التي كان رئيس تحريرها موسى صبري تحت عنوان (قصص من قلب إسرائيل) عن بطولات المخابرات المصرية داخل إسرائيل.. وتتابعت عناوين ماهر عبد الحميد المثيرة: (المفاجأة)، (عملاء من القاهرة) و(كنت صديقاً لدايان) الذي حوّله السيناريست الشهير بشير الديك قبل فترة قصيرة إلى مسلسل بعنوان (كن صديقاً لدايان)، يبدأ تصويره في آذار القادم تحت إدارة المخرج نادر جلال في تعاون آخر بينهما بعد (حرب الجواسيس) العام الفائت، حيث يُحتمَل أن يعود تيم الحسن إلى الدراما التلفزيونية المصرية بعد (الملك فاروق)، في دور عابد قرمان الذي تعاون مع المخابرات المصرية وزوّدها بمعلومات خطيرة من قلب إسرائيل بين عامي 1967 و1973. صالح مرسي .. رائد الإثارة بعد ماهر عبد الحميد ظهر كاتب آخر هو صالح مرسي الذي منح «دراما الجاسوسية» ملامح مميزة وروحاً إنسانية أكثر إثارة وتشويقاً، بعد انتقاله من العمل كمهندس بحري والكتابة عن الحياة البحرية (البحار مندي…) إلى عالم الجاسوسية، فكتب (الصعود إلى الهاوية) عن الجاسوسة التي سماها عبلة كامل وأدّت دورها مديحة كامل في فيلم بالعنوان نفسه أخرجه كمال الشيخ عام 1978.. عام 1981 تابع مرسي بمسلسل (دموع في عيون وقحة)، الذي عُرض عام 1982 بتوقيع يحيى العلمي، عن الجاسوس المصري أحمد الهوّان (جمعة الشوّان في المسلسل) الذي لعب دوره عادل إمام إلى جانب معالي زايد ومحمود الجندي ومصطفى فهمي وصلاح قابيل.. بعدها كتب مرسي واحدة من أفضل رواياته بعنوان (الحفّار) عن تدمير الحفّار الأمريكي الذي استأجرته إسرائيل للتنقيب عن النفط في سيناء، وتمّ «مطّها» عام 1995 إلى مسلسل ضعيف المستوى لم يرقَ لمستوى الرواية، سيناريو بشير الديك وإخراج وفيق وجدي وبطولة حسين فهمي ومصطفى فهمي و لبلبة.. عام 1987 توّج صالح مرسي مسيرته في دراما الجاسوسية بالجزء الأول من مسلسل (رأفت الهجّان) الذي حظي بشهرة ساحقة، حتى إنّ الشوارع كانت تخلو ساعة عرضه، حيث تمكّن مرسي من بناء شخصيات من لحم ودم بتفاصيل إنسانية داعمة لعملية التجسس التي قادها رأفت الهجّان (رفعت الجمّال) أو دافيد شارل سمحون (جاك بيتون)، ليكتمل النجاح بالجزء الثاني 1990 والثالث 1991 في إخراج لافت ليحيى العلمي وأداء استثنائي لمحمود عبد العزيز صاحب الباع السينمائي في مثل هذه الأعمال (إعدام ميت، فخ الجواسيس). صالح مرسي الذي توفّي عام 1997، كتب أيضاً (نساء في قطار الجاسوسية) و(سامية فهمي) الذي حوّل إلى مسلسل (حرب الجواسيس) الذي أشرنا إليه، ولعب فيه باسم ياخور دور ضابط الموساد شلومو إلى جانب منّة شلبي وهشام سليم. أعمال أخرى من المسلسلات المصرية الأخرى هناك (الثعلب) 1993، تأليف إبراهيم مسعود وإخراج أحمد خضر، بطولة نور الشريف وإيمان وصلاح ذو الفقار، و(العميل 1001) تأليف د. نبيل فاروق عن قصة حقيقية وإخراج شيرين عادل، بطولة مصطفى شعبان ونور ونيللي كريم ورياض الخولي، يحكي قصة الشاب المصري عمرو طلبة الذي ترسله المخابرات المصرية إلى إسرائيل للتغلغل داخل الجيش قبل حرب تشرين عام 1973. الحقيقة والضرورة الدرامية تميّزت معظم الأعمال المصرية باستنادها إلى عمليات حقيقية، فاعتاد الجمهور رؤية عبارة (من ملفات المخابرات المصرية) على شارات هذه الأعمال، ولكن مع المعلومات القليلة التي اعتادت المخابرات الاكتفاء بمنحها؛ كان على الكتّاب أن يرتجلوا ويسرحوا بخيالهم لملء الفراغات الكثيرة وإيجاد التفاصيل الناقصة، فتمكّن بعضهم من إيجاد «أسلوب» افتراضي للمخابرات، والأسلوب هو السر الذي لا يمكن لأيّ جهاز مخابرات في العالم أن يكشف عنه مهما كانت الظروف.. إضافةً إلى شحّ المعلومات، اضطرّ الكتّاب إلى افتراض بعض الأحداث لإضفاء ملامح إنسانية على الأبطال، مثلما فعل صالح مرسي بتخيّل تفاصيل علاقة رأفت الهجّان مع عائلته وأخوته وطريقة ديكور منزله وصراع زوجته الداخلي، أو د. نبيل فاروق في تعامل عمرو طلبة مع خطيبته في (العميل 1001)، فكان لا بدّ من «أنسنة» ضباط المخابرات وتفاصيل عمليات الجاسوسية، ليبدو أبطالها بشراً حقيقيين لا مجرّد آلات لإنجاز المهمّة. التشويق والإثارة تطلّبا أيضاً ابتكار بعض المواقف الخطيرة غير الحقيقية، ونذكر هنا ما فعله صالح مرسي في (رأفت الهجّان) عندما أضاف تفاصيل لقاء هذا الأخير مع رجل المخابرات المصري نديم هاشم في إيطاليا أول مرة، حيث كانت وسيلة التعارف السرية بينهما ربطة عنق مميزة لا مثيل لها إلا عند رأفت والمخابرات المصرية.. ما حدث فعلاً أنّ اللقاء تمّ في جنوا نهاية اليوم الرابع من دون مشكلات، ولكن صالح مرسي وجد أنّ الواقعة خالية من الإثارة المطلوبة، فأحدث التغييرات التي قرأناها في الرواية وشاهدناها في المسلسل.. رأفت الهجّان تائه في جنوا يستشعر الخطر في كل لحظة تمر من دون أن يرى ربطة العنق إيّاها، هل يعود إلى مصر أم إلى إسرائيل إذا لم يتم اللقاء؟.. في مصر يمكن أن يواجه عقوبة الإعدام، وفي إسرائيل قد يُقبَض عليه بعد أن كُشِف أمر أحد جواسيس المخابرات المصرية هناك مؤخراً.. وهكذا يلتقي بعشرات الرجال الذين يرتدون ربطات عنق بشتى الأماكن، قبل أن يتمّ اللقاء المنشود في الساعات الأخيرة وبأسلوب دراماتيكيّ مثير! المفارقة أنّ مرسي قارب الحقيقة بخياله إلى أقصى حد، حتى أن فالتراو زوجة رأفت الهجّان (فراو سمحون في الرواية) زارت مرسي في منزله لتسأله بذهول عن كيفية معرفته بأدق تفاصيل بيتها دون أن يدخله فعلاً! وبصعوبة تمكّن الروائي المصري من إقناعها بأنّ وصفه جاء من خلال معايشته لما يكتب، واستغراقه التام في هذا العمل لأكثر من عام ونصف عبر الوثائق والتسجيلات والعمل المستمر. الدراما السورية ورجال الحسم لم تدخل الدراما السورية هذا الحقل الخاص حتى الآن لعدّة أسباب؛ ربما لأنّ الضرورات الأمنية لا تسمح بعرض الوثائق والملفات الحقيقية، ولاسيما مع الحساسية الأمنية التي تتطلّبها حالة الحرب القائمة مع إسرائيل.. قد يذكر البعض هنا مسلسل (رجال الحسم) تأليف هاني بشير وإخراج نجدت أنزور وإنتاج شركة الهاني عام 2009 كمثال وحيد على التجربة السورية في هذا المضمار، وهو كلام مرفوض علمياً لأنّ «مغامرة» فارس (باسل خياط) «غير» المثيرة مع الموساد تمّت بغياب كامل للمخابرات السورية ومن دون أي تحضير يُذكَر (باستثناء تدريب الجيش)، فكان يمكن أن تختلف الأحداث كلياً في العمل لو كان عن ضبّاط مخابرات سوريين قادرين على هزيمة الموساد بأسلوب علمي سليم.. وإذا ما ناقشنا (رجال الحسم) تفصيلياً من باب تجاوز المصطلحات، فيمكن أن نوجز حيثياته بالنقاط الآتية: 1 – لا بدّ من الاعتراف والإشادة بالتطوّر النوعي للرقابة السورية في الحلقات الأولى من المسلسل التي تناولت الجيش السوري وبعض ملامح هزيمة 1967، وهي المرة الأولى التي نرى فيها هذه المرحلة المهمّة على الشاشة. 2 – لم يكن النص منطقياً في كثير من الأحداث والتفاصيل؛ فأنّى لريفي بسيط مثل فارس تعلّم العبرية واكتساب كل تلك المهارات في ذاك الوقت؟! حتى أنّه تمكّن من اختراق الموساد والحصول على جواز سفر إسرائيلي بكل يسر وسهولة!! كما كان قادراً على تأليف قصة مقنعة عن ماضيه، وهو بالأمر غير السهل حتى على أجهزة المخابرات الكبيرة!! وكل ذلك من دون الخوف الطبيعي الذي يجب أن يصيب أي ضابط مخابرات مدرّب، فما بالك بشخص عاديّ دافعه الأول الانتقام؟!! 3 – الإثارة المطلوبة في مثل هذا النوع من الأعمال كانت غائبة تماماً، فتكررت المشاهد وتتالت الحلقات من دون تطوّرات تُذكَر، سواء مع فارس في الخارج أو أهله في الوطن. 4 – تمّ تصوير علاقة أخت فارس (تاج حيدر) معه على أنّهما عاشقان، فهي تتذكّره كل ليلة وتتزوج الشاب الذي يذكّرها به، فالعلاقة كانت رومانسية لا أخوية!! 5 – جاء تصوير ضبّاط الموساد نمطياً وغير إنساني أو واقعي، فالأجواء المحيطة بظهورهم قاتمة وأحاديثهم غير إنسانية وقدراتهم ضعيفة وتفكيرهم غبيّ! وهو ما لا يتناسب مع حقيقة أنّ الموساد من أقوى أجهزة المخابرات في المنطقة، وخداعه لا يمكن أن يتم بتلك السهولة!! 5 – الفلاش باك، وهو فكرة جيدة، الذي لجأ إليه المخرج، استهان بذكاء المتفرّج في كثير من الأحيان، مع تكرار المشهد نفسه (الأصلي والفلاش باك) خلال أقل من دقيقة في الحلقة نفسها! 6 – النهاية كانت مفتوحة أكثر من اللازم حتى مع وجود جزء ثان. 7 – مشاهد المعارك مشغولة باحتراف، ومناطق التصوير منتقاة بعناية، والموسيقا التصويرية موفّقة، واجتهاد نجدت أنزور واضح في كل مفاصل العمل. 8 – بالفعل، لا يمكن مقارنة (رجال الحسم) مع مسلسل أكثر نضوجاً وواقعية ومنطقية وإنسانية مثل (رأفت الهجّان)، فهذا الأخير تلقّى تدريباً مكثّفاً، وشعر بالخوف البشري كما يُفترَض، وتعامل مع إسرائيليين من لحم ودم لا يتصرّفون بنمطية متوقعة.. أي باختصار، كان (رأفت الهجّان) مدروساً من كل النواحي على عكس (رجال الحسم). أخيراً.. إذا كانت «دراما الجاسوسية» نوعاً جديداً على الدراما السورية، فإنّها –بلا شك- تشكّل حقلاً خصباً لمزيد من التنويع والتجريب بما تحمله من إثارة
Views: 15