مداد – مركز دمشق للابحاث والدراسات
تحميل المادة
لا تقبل الولايات المتحدة الخروج من عنق الزجاجة إلا بكسرها.
في هذه الاستعارة سورية هي الزجاجة، وضوحاً، وإذا لم تكن أمريكا الفائزة فيها فلن تسمح لأحد بالفوز، وإذا لم تكن هي “صانعة السلام” فلا يحق لأحد صناعته، وإذا لم تجترح هي الحلول، فكل الحلول غير مناسبة وغير قابلة للتطبيق. دون إعارة أي اهتمام لمن يقع عليهم الأذى المباشر.
يتبدى هذا النهج جلياً في التقرير الذي أعدته “مجموعة دراسة سورية” التي شكّلها الكونغرس من “كبار الباحثين” الممثلين للحزبين الجمهوري والديمقراطي مناصفة. تقرير يدّعي أنه يحدد الاستراتيجية والأدوات اللازمَين لتحقيق المصالح الأمريكية في سورية، ولا يتجاوز في صفحاته الثمانين حدَّ التنظير المقعر لأفكار لم تعد قابلة للاستخدام في ضوء ما يفرضه الواقع على الأرض في سورية اليوم، وبلغة حتى مراكز الأبحاث الأمريكية نفسها ما عادت تستخدمها في منشوراتها العادية منذ ما يتجاوز السنة.
تشعر عند قراءة هذا التقرير –المقدم للكونغرس– وكأن هنالك طريقة أو “وصفة سحرية” لتحقيق المصالح الأمريكية في سورية، وهذا غش وابتزاز سياسي يمارس على الكونغرس ذاته من قبل مراكز الأبحاث، وأداة للتصعيد داخله، تدفع أعضاءه باتجاه اتخاذ قرارات أو إيقاف أخرى، تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بسورية.
تراوح الولايات المتحدة في المكان، أقله منذ تأسيس تحالفها المزعوم لمحاربة تنظيم “داعش”، والذي أحيت مراكز أبحاثها في أيلول/سبتمبر الذكرى الخامسة على تأسيسه، مستعرضة ما حققه من “إنجازات كبرى”، مع تأكيدها المستمر على أن خطر التنظيم ما يزال قائماً، وعلى التزام أمريكا بالاستمرار في قتاله، التزام تعفيها منه ربما كلّ الفواعل في سورية، المعنية حقاً بهذا التهديد، فببساطة شديدة، جغرافياً، وبعيداً عن موضوع الذئاب المنفردة، يمكن القول إن الولايات المتحدة هي الأقل عرضة لهجمات “داعش”، والخطر الأكبر يقع على المنطقة وبعدها أوروبا، وربما يصل روسيا قبل أن يبلغ الولايات المتحدة. لكن هذا ليس كافياً للتخلي عن عدوٍّ/ضرورة يتهدد منظومة قيمها (حريتها وديمقراطيتها) و”الحلم الأمريكي” المزعوم بشكل أخص، لإثارة مزيد من الرعب في الداخل يؤيد مزيداً من الغطرسة السياسية في الخارج.
التعاطي مع قضية “مخيم الهول” يوضح كذلك الأسلوب السابق. هل ما يجري في المخيم أزمة إنسانية أم أمنية؟ وفي الحالتين لماذا لا يتم التصدي للكارثة قبل انفجارها، ولماذا يُترك المخيم الواقع تحت سيطرة ميليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” على ما هو عليه من حال؟
كلّ ما يكتب عن “الهول” وكل الصور التي تُنشر عنه ومنه، تهدف إلى إثارة نوعين من المشاعر، في الكونغرس على وجه التحديد، التعاطف أولاً والخوف ثانياً. هم خلقوه، وهم جعلوا منه تهديداً وهم الذين يحاولون توظيفه ضمن مشروعهم في سورية وحتى في المنطقة.
المثير للسخرية أن العقبة الرئيسة في وجه هذه الرؤية أو الخطة أو الاستراتيجية هو دونالد ترامب!
تراجعُ شهية ترامب للحرب لا تنال رضا كثيرين في إدارته نفسها، خصوصاً بعد إقالته مستشار الأمن القومي جون بولتون، الممثل الأبرز للدولة العميقة في أمريكا، بسهولة، وكقرارات كثيرة سابقة عبر تغريدة على تويتر.
يُتَّهم ترامب بالعودة إلى سياسة “أمريكا أولاً”، والسعي للفوز بولاية رئاسية جديدة! أليس هذا منوال رؤساء أمريكا وعهدهم في السياسة، فلماذا يُنكره صقور المحافظين الجدد على ترامب؟ مع العلم أن صورة ترامب كـ “صانع صفقات” لها مؤيدوها من الأمريكيين، سياسيين وغير سياسيين، يرون أن الأولوية ليست في الشرق الأوسط، بل ربما في الشرق الأقصى (الصين وكوريا الشمالية)، وشرق أوروبا (روسيا)، أو في أمريكا ذاتها.
التحولات التي قد تحدث بقيادة ترامب داخل الإدارة الأمريكية، فهذه ستتبدى مفاعيلها وتأثيراتها على الحدث السوري، في المدى المنظور، وفي انتظار أي تغيير ذو قيمة باتت الأطراف بمعظمها تغرد اليوم خارج السرب الأمريكي، حتى بات لها سرب خاص، تتعنت الولايات المتحدة في رفضها الانضمام إليه، يفكر الجميع فيه بحلول تضمن المصالح، وهذا لا يناسب أمريكا التي تفكر بالمصالح ولا تهمها الحلول. لكن التغير الأهم الذي تحول إلى سمة للتوازنات الدولية الجديدة هو إمكانية العمل في غياب الولايات المتحدة وهذا ما يحدث في الشأن السوري. فالعمل جارٍ في السياسة ووقت الحاجة في الميدان. وإذا لم تشهد الإدارة الأمريكية تغييراً في منهجها، قد تضطر الفواعل في سورية إلى تكييف ما تصل إليه من نتائج بما لا يتعارض تماماً مع ما تريده أمريكا، كي لا تدفعها الرعونة إلى كسر الزجاجة فعلاً، لكن ليس بأكثر من ذلك.
Views: 6