لبنى شاكر
يُقال: إن التفاحة التي سقطت على رأس «نيوتن» كانت خضراء اللون، مفتتة وعديمة النكهة، على العكس تماماً من تداعيات السقوط، وما جرّته لاحقاً من اكتشافات علمية، أمضى العالم الشهير سنوات باحثاً في نتائجها وتفاصيلها، التفاحة إياها كثيراً ما وضعها القدر في مواقف شبيهة، حتى بات وجودها مقترناً بحدث لا يمكن توقعه أو تكراره، حدث مفصلي ليس فقط في حياة أصحابه وحدهم بل في الوجود بأكمله منذ أن وضعتها الإرادة الإلهية في طريق أبوينا «آدم» و«حواء»، فأودت بهما إلى الحياة الدنيا.. الحادثتان السابقتان جسدتهما أعمال فنية كثيرة، تجاهلت معظم الأحيان «لمَ كان التفاح ولمْ يكن غيره؟»، فالفاكهة الأكثر وفرة والأقل سعراً مقارنة بغيرها من فواكه موسمية أو نادرة، باتت في موقع الصدارة دونما مبرر دنيوي مقنع!.
في التشكيل السوري سنرى التفاحة تتلون وتتموضع في أماكن وغايات يصعب حصرها، لذا اخترتُ الحديث عنها في تجربتين مختلفتين كلياً، لكنهما ومن باب المصادفة تلتقيان عند «التفاح».
الأولى للفنان بشار برازي، والذي يستدعي في معرضه «تداعيات القهوة» أسس النحت ويطبقها بشكل غير مباشر على اللوحة، مستوحياً رموز الأساطير وإيحاءاتها. وفي أكثر من عمل يختار أجزاء من الجسد ويشتغل عليها عبر أساليب مختلفة، فهي خلفية لتفاحتين حمراوين، رمز للخطيئة البشرية الجميلة كما يسميها، والغاية إعادة لفكرة الولادة والبدايات الجديدة، بمعنى أن الخطيئة اكتشاف لعلم أو جسد أو جمال، لكن هل كانت خطيئتنا إرادة إلهية؟ يتساءل التشكيلي؟ علماً أن التفاح مذكور في عدد من الملاحم المنقولة، ولا يقتصر تداوله على الأديان السماوية.
يضيف برازي: للتفاح إغواء عجيب، هذا الرمز الأزلي للخطيئة الرائعة، تتوزع إشاراته كنبتة لاكتشاف العلم والعشق، وهي سبب أيضاً لاكتشاف جسد الآخر والاندماج الكامل به في محاولة العودة للأصل الأول «جسد واحد وأضلاعه»، التفاح كذلك شغف الشباب لإعادة الخلق والولادة، في أعمالي ربطته مع الجسد والمدينة الأنثى الولّادة، فالشام صدرها كتفاحة مشتهاة حنون تغفو عليه رؤوس المتعبين الحالمين، وما زالت تفاحة آدم عالقة في عنق بعض الرجال كناية عن الخطيئة ومخالفة الأمر الإلهي بعد أكلها، ومنذ زمن رسم «مايكل أنجلو» حواء تقدم تفاحة لآدم لإغوائه على الخطيئة بمساعده الشيطان، حين أراد الإله أمراً كان مفعولاً!، فهل هي نبتة الخلود التي حاول «جلجامش» في الأسطورة البحث عنها لإعادة الحياة لصديقه «إنكيدو»؟.
ما سبق شكّل أرضية لتجارب كثيرة اشتغلت على التفاح، لكنها لم ترق جميعها لتحتل مواقع في ذهنية المتابعين أو يكون لها حضور بعيداً عن المتوقع والمكرر، لتبقى جزئيات من رؤى أوسع. يقول الفنان سميح الباسط صاحب التجربة الثانية، وفي رصيده معرض «المبدعون أحفاد الطبيعة»، بعد أن بحث طويلاً عن خصوصية يبني عليها، كابن لريف الجنوب السوري، حيث توافرت له رؤية مفتوحة على اللامتناهي، كالحقول والأشجار والحجارة السوداء: إن التشكيل السوري غامر منذ بداياته في الخوض في تفاصيل الفكر الإنساني عبر تجلياته وخصوبته مستفيداً من جغرافيا أرضنا بما فيها من حضارات وأديان، لكنه تأثر بسخاء الطبيعة في قريته بريف السويداء، يتابع الباسط: جنوب سورية متحف أو مختصر للفن الحديث والقديم، هناك رسم الإنسان القديم ما يحب وما يكره، ومن هناك كانت ثقافتي البصرية، ففي قريتي ترتسم ملامح النحت على الحجر، عناقيد العنب والثمار، التفاحة باستدارتها تأخذ شكل القلب بتكوينها كثمرة أولية وقيمة رمزية ثم غذائية وتزيينية نشاهدها في مجمل الأعمال النحتية القديمة، لا يمكن أن ننسى حضورها أيضاً في الكتابات القديمة، منها ما تقوله «عشتار» في إحدى قصائدها «أنا الأنثى نضجت كتفاحة وأشتاق إليك»، لذا فضلتُ التفاحة على غلاف مجموعتي الشعرية «النيازك» كبؤرة حارة إلى جانب ألوان سوداء باردة، من هنا «يضيف الباسط» يحق للفنان أن يراقص التفاحة، ويفضي بأشواقه للأنثى الغيمة الماطرة، ويحق له كمصور أن يكوّر جسد الأنثى كتفاحة برمزيته ولونه وموسيقاه، وكما هو معروف لأي عمل فني عمر زمني، ميلاداً وموتاً، ثمة لوحة تعيش لثوان قليلة وأخرى لمئات السنين، يعود ذلك للحشد من الرموز وحرارة دفق اللون في لحظة ولادتها، فكلنا مثلاً يتذكر لوحة «العشاء الأخير» والتفاحة تتصدرها، وقبل ذلك كله في الفن الفطري شاهدنا التفاحة كاملة في مشهد يبتعد بتمامه عن التصفية والاختزال أما بعده فوجب على الفنان أن يحلل الأشكال الطبيعية الموجودة ويعيد تكوينها من جديد، لذلك يمكن التأكيد، حسبما يرى التشكيلي، أن الكاميرا لن تكون بديلاً عن الفنان أبداً، واتكاءً على هذا أيضاً سيبقى الأدب في خلفية اللوحة التي ستحتل دوماً المكانة الأولى بموسيقاها اللونية وعوالمها المتنوعة.
Views: 3