ليس سراً القول ان لبنان يمر بأسوأ أزمة اقتصادية ومالية منذ انتهاء الحرب الأهلية تُرجمت ميدانياً بتهافت المودعين على المصارف وشبه انقطاع للسيولة بالدولار ووضع قيود على السحوبات والتحويلات الى الخارج، أو ما يعرف بالـ (Capital Control). البعض يرى أن هذه الازمة هي في السياسة، بينما يعتبر البعض الآخر أن الحل هو عبر تأليف حكومة تكنوقراط، أو عبر مبادرة بلدان عربية صديقة إلى ضخ مزيد من الودائع في السوق اللبنانية. ويذهب البعض أبعد من ذلك مقترحاً تدابير أقسى، بما فيها إخضاع حسابات المودعين، وخصوصا الأغنياء منهم، لآلية “قص الشعر” Haircut التي تعني عدم تسديد الدولة لمقرضيها كامل المبالغ المنصوص عليها في سندات الدين، وهو تعبير ملطف لما يعني عملياً شطب الدولة جزءاً من ديونها المستحقة للدائنين.
إلا أن مصدرا ماليا رفيعا طمأن اللبنانيين عبر “النهار” الى أن ودائعهم “لا تزال في أمان”، وإن كان لا ينكر أن “للأوضاع السياسية تداعيات على القطاعات الإقتصادية والحياتية، وخصوصا القطاع المصرفي الذي طاولته تداعيات الأزمة، فاضطرت المصارف الى إغلاق أبوابها مدة شهر تقريباً، ما أثار المخاوف لدى العملاء الذين بادروا الى سحب مبالغ نقدية طائلة من المصارف التي تجد صعوبة في تلبية هذه الطلبات، كونها غير معتادة التعامل مع هذا الطلب الكبير على السيولة”.
وإذ لفت الى “أن اللبنانيين يدّخرون في منازلهم مبالغ نقدية تفوق الأربعة مليارات دولار وموزَّعة بين مبالغ بالدولار وأخرى بالليرة”، أشار الى ان “50 في المئة منها سحبها المودعون خلال أشهر أيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني واحتفظوا بها في المنازل”.
ويبدو المصدر مطمئناً الى ان “الامور ستستقيم، وان السيولة ستعود إلى السوق تدريجا، خصوصا أن لدى القطاع الخاص ديوناً للمصارف، تتوزّع بين قروض بالدولار قيمتها 47 مليار دولار، وما يوازي 12 مليار دولار ممنوحة بالعملة اللبنانية”.
ولكن هل في إمكان القطاع الخاص سداد ديونه في ظل هذه الاوضاع؟ اوضح المصدر عينه ان “نسبة القروض المتعثرة حالياً تبلغ 6 في المئة، وفي حال ارتفعت النسبة إلى الضعفين، يمكن أن نستمر في السيطرة على الوضع، لا سيما أن مصرف لبنان طلب من المصارف زيادة رأس مالها بنسبة 20 في المئة”، وختم بأن “السياسة هي المدخل إلى الحل”.
إعادة هيكلة الدين العام من السيناريوات التي يمكن أن يواجهها لبنان في المرحلة المقبلة، وهي تعني استبدال دين سيادي قديم للدولة بدين سيادي جديد بعد التفاوض مع الجهات الدائنة على القيمة الاسمية والفائدة والأجل للسند السيادي الجديد. واستناداً الى الخبير الاقتصادي الدكتور غازي وزني فإن “مسألة إعادة هيكلة الدين تصبح ضرورية وملزمة للدولة عندما تصبح غير قادرة على سداد دينها بالعملات الاجنبية وكلفته”.
وأوضح وزني أن “الصناديق الاستثمارية تستطيع رفض إعادة هيكلة الدين ورفع دعاوى ضد الدولة اللبنانية أمام محاكم نيويورك، ما يجعلها قادرة على حجز مخزون الذهب اللبناني في الولايات المتحدة. أما الدين العام المحرر بالليرة اللبنانية والبالغ 53.2 مليار دولار (80235 مليار ليرة)، فيخسر من قيمته الفعلية نتيجة تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار (يتوزع الدين العام المحرر بالليرة: 53% مصرف لبنان، 33% المصارف، 14% المؤسسات العامة)”.
وللإضاءة على المشكلة التي يعانيها لبنان حالياً، التقت “النهار” الخبيرين الكنديين الدكتور مايكل ووكر الذي شارك في عملية الإصلاح الاقتصادي في كندا وعدد من بلدان أميركا اللاتينية، وفرد ماكماهون الحائز جائزة السير أنطوني فيشر الدولية لمساهمته في تقدم النقاش حول السياسات الاقتصادية، وذلك بعدما استضافهما المعهد اللبناني لدراسات السوق للإفادة من خبرتهما العالمية في حالات مماثلة.
بحسب ووكر، “تفرض المصارف اللبنانية اليوم رقابة غير معلنة على رؤوس الأموال (capital control) وتضبط عمليات السحب وهي تالياً تتحكم بقدرة المواطنين على الوصول إلى احتياط دولاراتها لعلمها بعدم توافر ما يكفي من الموارد في النظام المالي لتلبية حجم الطلب على الدولار. وفي وسط حالة الهلع التي يمر بها الجميع، لا ينبغي على الحكومة او المصرف المركزي فرض أي رقابة على رؤوس الأموال بأي شكل من الأشكال. فهذه الرقابة تنهار مع الوقت، وتؤدي إلى تعطيل النظام المالي. وعليه، يجب أن يتمحور النقاش حول ما هو مطلوب حتى يستعيد الشعب ثقته في النظام المالي والنقدي، بدل فرض رقابة على رؤوس الأموال، والتي تعني فقدان الأمل بإيجاد أي إمكان للمعالجة”.
فما هي الإجراءات الواجب اتخاذها في أحوال كهذه؟ القرارات، بحسب ووكر، باتت معروفة للجميع وهي “أن تعترف الحكومة بأنها غير قادرة على معالجة الإهدار في إنفاقها وتحسين مدخولها، كما ان عليها التقليل من هذا الإنفاق بأقل الطرق ضرراً على الشعب. وهذا ما سيساعد الحكومة في استرجاع ثقة المواطنين والمجتمع الدولي الذي خفض قيمة سندات الخزينة 30% هذه السنة وحدها”.
أما ماكماهون فاعتبر أن “عدم تسديد قسم من ديون الدولة (Haircut) يؤدي إلى خسائر فادحة، لأنها تفقد ثقة المستثمرين بالبلاد، ويمتنعون عن الاستثمار فيها وتمويل شركاتها. وبمعنى آخر، لا ينحصر الضرر بالخزينة بل يتعداه إلى الشركات والمؤسسات التي قد تكون لديها نماذج أعمال جيدة، والتي كانت لتنمو وتخلق ازدهاراً داخل لبنان لولا فقدان تلك الثقة”. أما الحل الوحيد في رأيه فهو في “تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية التي تبعث الثقة عند المستثمرين في المستقبل، بدلاً من اللجوء الى “حلاقة الشعر”. فإذا استمرت الحكومة في الإنفاق أكثر بكثير مما تجنيه من عائدات ضريبية، فسيعود الوضع سريعاً إلى ما كان عليه من دون أن تحل أي من المشاكل. ويحتاج لبنان إلى سلسلة طويلة من الإصلاحات منها: تقليل وطأة القوانين التنظيمية بشكل يسمح للشركات بالنمو من دون معوقات وخلق فرص عمل، وإنشاء نظام قانوني يؤدّي إلى استعادة الثقة بلبنان”. هذه الإصلاحات هي الواجب اتخاذها، وفق ووكر، “بدلاً من الحيل ذات المدى القصير كالرقابة على رؤوس الأموال أو “حلاقة الشعر”، ومصادرة أموال المودعين التي لا تستطيع في أحسن حالاتها سوى تشكيل إبرة مسكّن تعالج الوضع موقتاً قبل أن ينتهي مفعولها لتعود البلاد إلى مرضها الأول (الفساد). لذا فإن الحل الحقيقي، يتمثل بمعالجة المرض من جذوره لتحقيق نمو طويل الأمد مترافق مع هيكلية اقتصادية سليمة، لا تسكينه عبر حلول مزعومة قصيرة المدى”.
وعلى عكس ماكماهون، لا يعتقد ووكر أنه يمكن حتى شراء الوقت عبر “حلاقة الشعر” ومصادرة أموال المودعين، “فقد خفضت الأسواق العالمية سندات لبنان بنسبة 30% عما كانت عليه في بداية السنة، وإذا ما اقدمت الحكومة على حلاقة الشعر ومصادرة أموال المودعين، فإن توقعات الأسواق ستزداد سلبية على لبنان. وسيكتشف أنه لم يعد قادراً على طلب مزيد من الديون”. وفي هذا الجو السلبي، يعتقد ووكر أن “من الصعب جداً إعادة جدولة الديون بشكل سليم”. ويعطي الأرجنتين مثلا لتبيان مساوئ هذه السياسات الفاشلة. “فقد بدأت اللعبة الإصلاحية في الأرجنتين بعدم تسديد قسم من ديون الدولة، وانتهت باستيلاء الحكومة الأرجنتينية على الحسابات المصرفية لمواطنيها، لأن الحكومة ازدادت استماتة كلما تقدمت في هذا الطريق، حتى انتهى بها المطاف إلى الاستيلاء على مقدرات الأرجنتينيين كلها من أجل إعادة التوازن إلى الموازنة العامة”. ويستبعد ووكر أن يكون أحد في لبنان يريد خوض هذه التجربة المُرة، “ولكن بإمكان لبنان ان يصل في نهاية المطاف إلى وضع مماثل لما حصل في الأرجنتين، إذا ما استمرت الحكومة في سلوك هذا الطريق الخطير”، معتبرا انه “حتى تلميح الحكومة بتشريع حلاقة الشعر او مصادرة أموال المودعين فكرة سيئة للغاية”.
ويقترح ووكر “إعادة جدولة ديون لبنان الحالية بشكل يبطئ وتيرة الدفع في مقابل تعهد الحكومة تخفيف مصاريفها بشكل واضح وصريح، بحيث يتم التقليل من التمويل المفرط الذي يذهب الى سد العجز. فلبنان اليوم يستدين لدفع فوائد ديونه المستحقة الأخرى”. وختم: “وضع لبنان اليوم مرفوض وغير قابل للاستمرار، تماما كالأرجنتين، وتالياً لا نريد لبنان أن يصبح أرجنتين الشرق الأوسط”.
الدين العام بالعملات الاجنبية
يبلغ الدين العام بالعملات الاجنبية القابلة لإعادة الهيكلة 30.1 مليار دولار (سندات أوروبوند) موزع كالآتي:
– القطاع المصرفي: 15.5 مليار دولار (51.5% من الدين الاجمالي).
– مصرف لبنان: 2.7 مليارا دولار (9% من الدين الاجمالي).
– الصناديق الاستثمارية: 11.9 مليار دولار (39.5% من الدين الاجمالي)
Views: 3