سلمان عز الدين
يقدم «غوغل» ـ دونما قصد ـ فكرة عن الالتباس الذي لا يزال يغلف فن «المقال»، فملاحقة هذه المفردة، عبر محرك البحث الأشهر على الانترنت، تقودك إلى خليط غير متجانس من الأسماء والعناوين والمصادر والكتابات. فمن المازني إلى توماس فريدمان، ومن طه حسين إلى مجدي الجلاد، ومن «جزالة اللغة في المقالة الأدبية» إلى «أسلوب الهرم المقلوب في كتابة المقال الافتتاحي لصحيفة يومية»، ومن «الفرق بين الخاطرة والمقالة» في كتاب ناقد كلاسيكي إلى «الفرق بين الزاوية والعمود» في كتاب أكاديمي لإحدى كليات الإعلام.
ولا تجدي المعاجم والمراجع الورقية في إنقاذك من الحيرة، فالتعاريف الكثيرة لـ «المقال الأدبي» تجعلك تتساءل إن كانت تتحدث عن الشيء نفسه، أما ما اتفق منها على قواسم مشتركة، فهي قلما تتفق مع ما ترسخ في كتابة هذا النوع عبر السنين.
يعرف الدكتور جونسون المقالة بأنها «نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام؛ هي قطعة لا تجري على نسق معلوم، ولم يتم هضمها في نفس كاتبها..».
وكان فرانسيس بيكون قد وصفها بأنها «ملاحظات مختصرة كتبت من غير اعتناء. إنها مذكرات موجزة وأفكار متقطعة يعنى فيها بمعانيها لا بأسلوبها». واللافت أن كثيراً من النقاد المعاصرين رددوا أشياء مشابهة لهذه التعاريف القديمة، مشددين على «عدم الاكتمال، واللا نضج، واللا نظام، والإحاطة بالأبعاد الخارجية للموضوع دون التعمق فيه، وعدم العناية بالأسلوب».. وما يبعث على الدهشة أن كل ذلك لا ينسجم مع حصيلة النتاجات في هذا النوع الكتابي، إذ لطالما فاخر كتاب المقالة بأسلوبهم الأدبي الرفيع وعنايتهم باللغة، كما اشتهر عدد منهم بدقة أفكاره وعمق طروحاته. وسيكون غريباً أن يتقيد كاتب مقال ناشئ بهذه الشروط: «أن يكون غير ناضج ولا يحيط إلا بالمظاهر الخارجية متجنباً العمق والعناية بالأسلوب»!
وبعيداً عن التعريف، العقيم والفائض عن الحاجة أصلاً، فقد عانت المقالة، ومنذ نشأتها في القرن السادس عشر وحتى نهاية عصرها الذهبي في أواسط القرن العشرين، من الاختلاط بفنون وأنواع كتابية أخرى، إذ شهدت الأوساط النقدية العربية سجالات حول رسم الحدود بين المقالة وكل من الخاطرة والخطبة، وكذلك بينها وبين الرسالة والمقامة التراثيتين..
وشيء من هذا شهدته الأوساط الأدبية الأوربية، حيث دار الحديث حول التخييل في المقالة الأدبية، وما إذا كان ذلك يخرجها من دائرة المقالة إلى دائرة القصة القصيرة (المثال الأشهر هو الجدل حول عدد من نصوص جورج أورويل، ولا سيما «حادثة شنق» و«صيد فيل»)..
غير أن وجه الاختلاط الأبرز يبقى هو الذي يجمع المقال الأدبي مع المقال الصحفي، إذ يؤكد أكاديميون وباحثون أن الاثنين هما اسمان للشيء نفسه، وبالطبع هذا يغضب النقاد ومؤرخي الأدب.
على كل فليس أي من هذه المسائل مما يتسم بالراهنية. إن النقاش هنا يشبه النقاش حول ما إذا كان الماموث فيلاً أو وحيد قرن أو مجرد ماموث وحسب. أجل فإن المقال الأدبي هو نوع منقرض، أو ـ بقليل من التفاؤل ـ آيل للانقراض.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان العديد من الكتاب البريطانيين والأميركيين يعتبرون أن المقال هو «النوع الأدبي الأصلي وأفضل وسيلة لعرض أفكارهم وتأملاتهم»، ولنتذكر أن إرفينغ واشنطن وإمرسون وثورو.. قد حازوا شهرتهم الكبيرة بوصفهم كتاب مقالات أساساً، وحسب الناقد البريطاني برنارد كريك، فإن مقالات أورويل، لا رواياته، هي التي منحته «العظمة»، و«لقب أفضل كاتب إنكليزي في مرحلة ما بين الحربين»..
وعربياً، فقد كان نجوم الأدب، والفكر والشأن العام.. كتاب مقالات قبل أي شيء آخر: رفاعة الطهطاوي وعبد الله النديم ومحمد عبده والعقاد والمازني وطه حسين وخليل مطران وأديب اسحق وسليم النقاش وأحمد أمين..
أمجاد غابرة.. فالمقالة اليوم باتت عنواناً لطراز عتيق من الكتابة الأدبية، والمؤلفون الذين يصطحبون نتاجاتهم، والتي ليست بقصص أو روايات أو شعر، إلى المطبعة صاروا يفضلون إدراجها تحت تنويعات من العناوين العريضة الأكثر «حداثة»: «نصوص، كتابات، نثر.. ».
هذا التراجع ليس مقصوراً على المشهد الأدبي العربي، فمعظم الكتابات النقدية الغربية باتت تحصر الأدب في أنواع ثلاثة: «الشعر والقصة الخيالية والمسرح». الشيء الذي دفع الكاتب الأميركي أي. بي. وايت إلى القول إن «كاتب المقال انكب على جنس مهمش ولا بد أن يقنع بالدور الذي فرضه على نفسه بأنه مواطن من الدرجة الثانية».
الكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين (١٥٣٣ ـ ١٥٩٢)، والذي يجمع الدارسون على أنه رائد فن المقال الحديث، قال في مقدمة «محاولات» ـ الكتاب الذي جمع مقالاته ـ «إن ذاتي هي موضوع مقالاتي». ومنذ ذلك اليوم ظلت المقالة ميداناً رحباً لذات الكاتب، الذي كان يجاهر بـ (أناه) ولا يسعى إلى إخفاء أن موضوع مقاله يُعرض من وجهة نظره ووفق رؤيته الذاتية، والذي كان، كذلك، يجد الترف والمتسع من الوقت ليلتقط شخصيات من الشارع، ووقائع من على الرصيف، ونوادر من المقاهي..
وظل الاختلاق الفني حاضراً أيضاً، ولم يكن أحد ليجرؤ على الطلب من توفيق الحكيم أن يسمي مقالته «قصة» لأنه اختلق فيها واقعة مواجهته الموت في دكان حلاق مصاب بعقدة نفسية (عقدة البطيخ). كما لم يكن أحد ليخطر له الطلب من العقاد أن يفصح عن مصادره، أو الطلب من المازني أن يقدم إثباتات للوقائع والأسماء الواردة في مقالاته..
ذات الكاتب صارت اليوم مما يجب التستر عليه، تحت وطأة التمسح بالموضوعية العلمية (بمناسبة وبدون مناسبة). والانطلاق المرح في «البراح» صار يستفز أعصاب الصحافة المشدودة. أما الاختلاق الفني فبات يلزم الكاتب، أمام ناشريه، بأن يكف عن استخدام مصطلح «مقال».
الخلود قد يُكتَب للمقال أيضاً
كان إميل زولا (1840 ـ 1902) واحداً من أعلام المدرسة الطبيعية في الأدب، والتي ازدهرت في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كتب الروايات والمسرحيات، وكان حاضراً بقوة في المشهد الثقافي الفرنسي والأوروبي. لكن اليوم لم يتبق الكثير من نتاجاته الأدبية في الذاكرة، رواياته التي ألهبت حماس معاصريه بمضامينها الاجتماعية وتعريتها لأشكال الظلم واللا مساواة، باتت باهتة وتقف في مكان بعيد وراء روايات مواطنيه بلزاك وفلوبير، أما المدرسة الطبيعية فقد غدت جزءاً من تاريخ الأدب وحسب.
غير أن زولا لا يزال اسماً لامعاً، يتم استحضاره في مناسبات كثيرة، ليس بوصفه روائياً أو مسرحيا ولا حتى منظراً أدبيا، بل كونه كاتب المقال الأشهر: «إني اتهم».
نُشر المقال في الصفحة الأولى من صحيفة «لورور»، في 13 كانون الثاني 1898، وقد أعيد نشره مئات المرات كما ترجم إلى مختلف لغات العالم. وفيه يقدم زولا مداخلته التاريخية المدوية في قضية «دريفوس» الشهيرة، التي شغلت فرنسا وقتئذ وقسمت رأيها العام بصورة غير مسبوقة.
عبارات متدفقة كانت أشبه بالسياط، مع تكرار مُوقَّع لعبارة «إني اتهم»، وقد طال الاتهام شرائح واسعة من الطبقة السياسية، والمثقفين، ورجال الدين، والعسكر..
وإذا كانت روايات زولا قد صنفته يسارياً ومعارضاً إلا أنها كانت بلا جريرة أو ثمن، أما مقاله هذا فقد كلفه غالياً: محاكمة تكررت ثلاث مرات، ونفي إلى إنكلترا، ثم موت غامض في بيته المحترق.
في مقال يعود إلى الثلاثينات من القرن العشرين، كتب ألدوس هكسلي عن آل غريكو، ملاحظاً أن الأشخاص في لوحاته يبدون دوماً وكأنهم في بطون الحيتان، ويصرخ الكاتب البريطاني فزعاً: «إنها فكرة غريبة بل أمر رهيب.. أن يتواجد المرء في سجن أحشائي».
وقد كُتبَ الخلود لهذا المقال، والملاحظة المتعلقة بـ «المرء في سجن أحشائي» غدت الصورة الرمزية الأشهر في السجال المستمر حول موقع الكاتب من العالم. وعبر العقود التالية انضم عدد كبير من الكتاب إلى استخدام رمز (يونس في بطن الحوت)، منقسمين في الإجابة حول الموقع الأمثل لوجود الكاتب: في بطن الحوت محمياً من تيارات المحيط الصاخبة ليتسنى له المراقبة بهدوء وروية، أم خارج الحوت، في خضم الأمواج، منخرطاً كبقية (الأسماك ـ البشر) في صراعات العالم، المحيط؟.
في عام 1929 كتب إبراهيم عبد القادر المازني مقالاً بعنوان «طه حسين في ميزان التشكيك»، وفيه يشكك الكاتب المصري الساخر بوجود رجل حقيقي واحد اسمه طه حسين. وهو يصل إلى هذه النتيجة عبر منهج الشك المنطقي، مقارناً بين ثلاثة أشخاص يحملون الاسم نفسه: شيخ وأفندي وأستاذ جامعي، لكل منهم أفكاره وأسلوبه وطريقته في الكلام والنظر إلى العالم. وإضافة إلى هؤلاء ثمة اثنان آخران: أعمى وبصير. الأول يمشي في عالم الظلام، متفنناً في وصف ألوان العتمة، معتمداً في تصوير العالم على الحواس الأخرى التي أرهفها العمى. أما الثاني فهو يتدفق في الوصف البصري للطبيعة والشخوص والشوارع والمباني.. ويتساءل المازني: كيف نوفق بين كل هؤلاء؟ أو ليس من حق الأجيال القادمة أن تشكك في وجود رجل واحد هو طه حسين.
بالطبع فالمازني هنا يحاكي ساخراً منهج عميد الأدب العربي نفسه، والذي أوصله إلى إنكار وجود الشعر الجاهلي، وامرؤ القيس، وقيس بن الملوح والعشرات من الأسماء الراسخة في التراث الجاهلي..
أضحك هذا المقال طه حسين كثيراً، وظل يضحك القراء المصريين والعرب عقوداً طويلة. ومؤخراً تمت استعادته إلى دائرة الضوء، عندما نسبه أحدهم إلى نفسه ونشره في أحد المنتديات على فيسبوك، لتكون المفاجأة: انخرط الكثيرون في النقاش الجاد، وبرر معظمهم هذا الشك، بل أن بينهم من اعترف أنه بالفعل لا يملك دليلاً فعلياً على وجود طه حسين!.
يعيش عبد السلام العجيلي في ذاكرة القراء السوريين والعرب، برواياته وقصصه، وبمقالاته أيضاً. في 28/6/1985 نشر العجيلي مقالاً في مجلة «الدوحة» تحت عنوان «تقشير الخيار بالسيف البتار»، وهو يكثف السمات التي فتن بها الكاتب السوري الشهير قراء مقالاته: الحكاية الممتعة، الحبكة القصصية، الحوار الذي يفجر الأفكار والمفارقات الذكية، وكذلك شخصية العجيلي الحاضرة على الدوام، والموضوعة، بكل تواضع، على محك النقد والتشكيك.. بل والسخرية.
يلتقي العجيلي بأستاذه القديم صدفة، فيسأله هذا عما يكتب، لينبري الكاتب في استعراض الأفكار الرئيسية لروايته التي يعكف على تأليفها. بوجه واجم وصوت يائس، يقول المعلم تلك العبارة التي صارت عنواناً للمقال: «أنت يا بني تقشر الخيار بسيف بتار».. وعبر حوار مشوق مترع بالطرائف والاستشهادات والمقبوسات، يدور حديث طازج عن مسؤولية الكلمة، ودور الكاتب، ومفهوم الالتزام، وعلاقة الأدب بالسياسة، وسطوة الرقابة والمحظورات..
وهل نستطيع أن نضع أصبعنا على ذاكرتنا ونشير إلى مقال محدد لمحمد الماغوط؟!. مئات المقالات صارت في ذاكرتنا مقالاً واحداً طويلاً، ساحراً، عذباً، غاضباً، وحزيناً.. مقالاً غدا خزاناً لا ينضب ينهل منه السوريون استعارات أدبية، ومفارقات ساخرة، ونكاتاً ذكية، وكلمات شجية..
قراء ينتظرون مقالاً
لاستبعاد شبهة الرثاء أو «الحنين إلى فردوس أدبي مفقود»، فثمة مراهنة هنا على أن المشهد الثقافي الراهن يحتاج عودة المقال الأدبي إلى الحياة، وعلى أن ثمة قراء تائهين يفتشون عن كتابة مفتقدة. أناس ينتمون إلى الصنف الذي أسماه توماس جفرسون «الرجل من العامة»، أو ما نسميه عادة «القارئ العادي، أو القارئ المتوسط، أو رجل الشارع المهتم».. أولئك الذين يمتلكون الفضول والرغبة بالمشاركة المعرفية، ولكنهم ينفرون من لغة الاختصاص المتعالية، ولا يجدون في نظريات الحداثة وما بعد الحداثة أصداء لما يجول في نفوسهم، وبالمقابل فهم لم ينحدروا إلى مستوى الكتب الصفراء ولا إلى مستوى المعجبين بمذيعي الـ «توك شو» (فرسان الرأي الجدد).. لا يتحلون بالجلد على «مقاربات» النخبويين و«رؤاهم»، وفي الوقت نفسه فهم ملوا تمرير إبهامهم من الأسفل إلى الأعلى على شاشة هواتفهم الجوالة لعلهم يعثرون على جديد أو ثمين أو مهم أو ملفت بين ما يجود به أصدقاء الفيسبوك الخمسة آلاف، ونسوا اللهاث وراء مستجدات التلفزيون وتحليلات كتاب الأعمدة الصحفية. قراء يفتقدون اللغة المشحونة بالانفعال، والمكاشفة الحميمية، والطروحات الرفيقة بعقولهم الحائرة ونفوسهم المنهكة. باختصار: إنهم يحتاجون ما أراده عبد الله النديم لمقالاته «.. لا مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بفخامة لفظ وبلاغة عبارة ولا تضطر لترجمان يعبر عن موضوعها ولا شيخ يفسر معانيها. وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم.. ونديم يسامرك بما تحب وتهوى».
Views: 3