ليس المسؤولون “مسؤولين” عن كلامهم، فكيف بالأحرى أفعالهم الممزوجة بكمّ من المصالح “الماليّة”؟! قد تتفاوت نسب المسؤولية ولكنّ الأكيد أن المنظومتين السياسية والمصرفية متداخلتان لا بل شريكتان لدرجة انه عليهما “وحدهما” تكبُّد أكلاف المرحلة الراهنة بما أنهما استفادتا، من “الاقتصاد الريعي” ومن “الربا الفاحش” المتمثّل بالهندسات المالية والاكتتاب بسندات الخزينة، بالإضافة إلى عمليات السمسرة والسطو على “قرش” المواطن!
قد لا تتحمّل المصارف وحدها مسؤولية ما توصّلنا إليه، فلا أحد يُنكر الدور الذي أدّته خاصة خلال الزمن الذهبي للبنان (قبل الحرب الاهلية) لناحية تحريك العجلة الاقتصادية على مدى أعوام ولكنّها في الوقت عينه ساهمت، وبشكل كبير في “خداع” المودعين الكبار ونصب الأفخاخ لهم عندما قامت بإقناعهم بتجميد ودائعهم في لبنان في السنوات القليلة الماضية حتى تقوم وتحتجزها اليوم مع أموال صغار المودعين وحساباتهم الجارية. والنتيجة: بطالة وركود لا بل كساد مع غلاء أسعار… هذه هي الخلطة الاسوأ لأي اقتصاد في العالم فكيف اذا كان اقتصاداً هشّاً يفتقر الى الانتاج والإبداع؟!
في ظلّ هذه المعمعة لا بدّ اذاً من إصلاح جذري وهيكلي لهذا القطاع الذي انحرف عن مساره الاساسي ألا وهو تمويل الانتاج وتحسين النمو، ولا بدّ أيضاً من قضاء يحاسب المرتكبين ويعمل لاسترجاع الاموال المنهوبة.
“الحلاقة” أفضل من “الشفط”
تتعدّد أوجه الـ”هيركات” وتختلف تسمياتها إلا أن نتيجتها واحدة. وبكل ما تحمله هذه “الحلاقة” من قساوة في التعبير الشعبوي، نظراً لعدم عدالتها تبقى اليوم أفضل من الواقع الذي بتنا نعيشه. فاقتطاع نسبة من الودائع أفضل من “شفط” الدولارات المحتجزة في المصارف أو إعادتها إلى أصحابها على شكل ليرة بسعر صرف رسمي 1500 ليرة فيما السعر في السوق الموازية لامس 2100 ليرة وسيصل بلا شكّ الى 3000.
أما عن استنسابية المصارف وأنانيّتها…فحدّث ولا حرج، ناهيك عن انعدام مقاييس الادارة الحكيمة التي تمارسها هذه المؤسسات، فيما البنك المركزي، الجهة المنوطة بمراقبة عملها ومحاسبتها، فلا حول له ولا قوّة. لقد ساهمت استنسابية المصارف بتسريع عملية انتقال الاقتصاد من حالة الإنكماش إلى الركود ومن ثمّ الكساد، بما لذلك من تداعيات على نسبة البطالة وانخفاض الموجودات المصرفية وتقلّص الانتاج بسبب انخفاض القدرة الشرائية التي من المتوقع أن تلامس مستويات غير مسبوقة حتى خلال سنوات الحرب.
بعد تخفيض الفوائد على الودائع وفي ظلّ ارتفاع نسب التضخم من دون انقطاع حيث تخطت هذه النسب الفوائد على الودائع، يمكن الاستنتاج أن قيمة الودائع المحتجزة تتقلّص يوماً بعد يوم وتتقلّص معها القدرة الشرائية. وإن كانت الودائع المجمّدة تعاني الأمرّين فكيف هي حال الاموال المحجوزة في الحسابات الجارية؟ سنشهد في الاسابيع القليلة المقبلة وقف السحوبات بالدولار نهائياً وبالتالي ستُخيّر المصارف أصحاب الحسابات بين القبول باستبدال الدولار بالليرة على أساس سعر صرف 1500 (وهكذا يكونون قد خسروا 50% من قيمة أموالهم) أو عدم حصولهم على أي “إعاشة” أسبوعية. أما السلطة النقدية ففقدت كلّ حسّ بالمسؤولية وبمجرّد إعرابها عن جهلها حيال مستقبل سعر الصرف فذلك يعني عملياً أن القدرة الشرائية للمواطنين ستتهاوى أكثر.
إسترجاع الأرباح الريعيّة
“من غير العادل أن يتحمّل الموظفون والمتقاعدون وروّاد الأعمال ضرائب على ودائعهم. من هنا، لن تكون الضرائب على الثروات هي الحلّ. فمن غير المنصف اقتطاع ودائع أشخاص راكموا ثرواتهم من خلال عملهم الدؤوب وقاموا بالاستثمار على مدى أعوام في لبنان وخلقوا مئات وآلاف فرص العمل. بل إنّ الحلّ متمثّل بمحاسبة كلّ من استفاد من المنظومة الريعية لمراكمة ثرواته. وبما أن المنظومتين المصرفية والسياسية متداخلتان لاعتبار ان المصارف بغالبيتها مملوكة من سياسيين أو من مقرّبين منهم، يجب بعد إصلاح ماليّة الدولة وسدّ مزاريب هدرها، توزيع الأعباء بشكل عادل وبشكل يتحمّل كلّ من راكم “الربا الفاحش” بنسبة 40% من الاموال التي يملك. هذه هي إحدى الوسائل للإسراع بالبدء باستعادة الاموال المنهوبة” يقول الخبير في أسواق البورصة العالمية جهاد الحكيّم.
من وجهة نظر الحكيّم، فإن هذه الطريقة تساهم في إخلاء سبيل أموال المودعين الصغار والشركات وقوى الانتاج الذين لم ينخرهم فساد المنظومة الحاكمة، والذين يساهمون في إعادة الحركة الى الاقتصاد خصوصاً وأنّ ما نشهده اليوم أسوأ من قصّ الودائع وأشد قسوة من تقييد السحوبات والتحويلات البعيدة كلّ البعد عن مبدأ العدالة. لو تمّ تطبيق تقييد الرساميل رسميّاً، لحصل ذلك وفقاً لقانون ومراسيم تطبيقية ولبقي أفضل مما يحصل اليوم ولما وصل الاقتطاع الشرعي الى المودعين الصغار أما اليوم فإنّ صغار المودعين هم من تأثّروا وتأثّر معهم قطاع الإنتاج.
ويشرح الحكيّم “أنه في حال فُرض هكذا تدبير، وحاول المشتبه بهم التهرّب من التسديد، يمكن تنفيذ حجوزات على ممتلكاتهم تماماً كما في قانون الإلتزام بقواعد الضرائب على الحسابات الأميركية خارج الولايات المتحدة (FATCA). يمكن لهذا التدبير أن يُحقّق نوعاً من العدالة ويساهم في إطلاق قطار استرداد الاموال المنهوبة بما أن الاجراءات القانونية لتحقيق ذلك قد تستغرق الكثير من الوقت”.
من دون إصلاحات بنيويّة ومحاسبة المقترفين والفاسدين، ومحاكمتهم، لن تكون هناك حلول… ومن عنده حلّ فليُقدّمه
Views: 8