قلة قليلة من مودعي المصارف تخصص وقتا لقراءة عقد فتح حساب في المصرف. هي اوراق كثيرة ومواد عديدة يتنازل مودعون عن حقهم في الاطلاع على مضامينها، انطلاقا من ثقة كاملة بالمؤسسة التي قرروا ايداع اموالهم فيها. وهي قلة كذلك التي بدأت تدرك، بعد استفحال الازمة المالية، ان معظم تلك العقود هي بمثابة إذعان، تعطي المصارف حقوقا، وإن كانت غالبيتها تسقط بقوة القانون العام على العقد الخاص.
لطالما تمتع لبنان بقطاع مصرفي متميز، بلغ حجمه ثلاثة اضعاف حجم الناتج المحلي الاجمالي. ولطالما اعتبر حاكم المصرف المركزي، كما المصارف، ان دولرة الاقتصاد اللبناني بنسبة بلغت قبل الازمة الاخيرة نحو 76 في المئة، ميزة تحمي الودائع، وتقلل مخاطر المضاربة على العملة الوطنية، كون الكتلة النقدية بالليرة باتت ضعيفة وقابلة للسيطرة في ظل الاحتياطات المرتفعة للمصرف المركزي بالعملات الاجنبية.
تلك الميزات التي تمتع بها القطاع المصرفي في العقدين الماضيين، والتي استعاد معها مجد حقبة السبعينات الذهبية، دفعت المصارف التي استقطبت سيولة وافرة شكلت فوائض كبيرة، واحيانا عبئا على محفظتها، الى تنويع خدماتها وتوسيعها، مقدمة اغراءات الى زبائنها تحت شعارات رنانة دخلت كل بيت، من دون ان تتراجع عن تورطها المتنامي في تمويل عجز الدولة من دون اي قيد او شرط، حتى بعدما اصبح انكشافها على السندات اللبنانية كبيرا ومحفوفا بالمخاطر.
لم يتلمس اللبنانيون عمق الازمة وخطورتها الا عندما بدأت تمس جيوبهم وتتهدد مدخراتهم وودائعهم. ولم يتقبل هؤلاء التحول المفاجىء في التعامل المصرفي، اذ بعدما كانت المصارف تتنافس على استقطاب الودائع تحت مغريات معدلات فوائد مضخمة، بات على المودع اليوم ان يستجدي وديعته، او القلة القليلة النادرة من العملة الخضراء ليسد بها حاجاته ضمن “كوتا” اسبوعية، تضيق هوامشها يوما بعد يوم في ظل القيود المتنامية على حركة التحويلات الى الخارج او السحوبات.
واذا كان لبنان قد سقط في فخ ازمة مالية حادة جدا نتيجة تراكمات السياسات الانفلاشية التي لم تأخذ في الاعتبار المخاطر المترتبة عنها، فإن اولى بوادر تداعياتها بدأت تتبلور ان من خلال الانخفاض في قيمة العملة الوطنية، مع قيام سوق موازية لليرة، او من خلال التعاملات المالية والمصرفية التي تنفذ اجراءات القيود على رأس المال (Capital Control) او خفضه (Hair Cut) من دون قوانين مرعية وباستنسابية مطلقة من دون اي رادع او عدالة بين صغار المودعين أو كبارهم.
وفي حين يعتقد مصرفيون ان هذه القيود ستساعدهم على حماية الودائع، داعين المودعين الى التغلب على مشاعر القلق والخوف السائدة لديهم، يغفل هؤلاء ان الاداء المصرفي في الاشهر الثلاثة الاخيرة ولا سيما سوء ادارة الازمة حتى على مستوى السلطات المالية، ستكون له انعكاسات خطيرة جدا على العمل المصرفي في لبنان، لم يتبينوا محاذيرها بعد.
اول هذه التداعيات تجلى في تراجع الثقة بين المودع ومصرفه الى مستويات متدنية جدا ستحتاج المصارف الى الكثير من الوقت والجهد لاعادة بنائها.
ثانيها ان تراجع الثقة الذي ادى الى انعاش الاقتصاد النقدي بحيث عاد الناس الى استعمال العملة الورقية في زمن العملة الرقمية، سيدفع المصارف الى اعادة النظر بدورها.
فالمصارف لم تعد قادرة على الاستمرار في الاضطلاع بمهمة تمويل عجوزات الدولة، بعدما غيبت مؤسساتها عن التمويل الاستثماري. وهي ستواجه صعوبات جمة في مواجهة ازمة القروض المتعثرة لتسليفات القطاع الخاص، كما ستواجه صعوبات مماثلة في التعامل مع زبائنها طالما ان هوامش التوظيفات ضاقت في شكل كبير، فيما اقتصر دور الموظفين، على اختلاف مواقعهم ورتبهم، على طمأنة الزبائن وتلبية طلبات السحوبات الكثيفة على الكونتوارات. وكل هذا وسط صمت مطبق يعكس سياسة اعلامية تقوم على عدم الرد والشرح والتوضيح!
والأخطر في كل هذه الازمة أنھا ستؤدي، مع استمرار تفاقمها تحت وطأة ازمة سياسية حادة من دون افق، وغياب سلطات رسمية تتحمل مسؤولياتها، إلى زعزعة استقرار القطاع المصرفي، وانتفاء دوره، ما لم يبدأ البحث الجدي في هذا الدور.
ولكن، وفي الانتظار، ستكون المصارف عاطلة عن العمل، الا عن استنزاف مقدراتها. وتكفي الاشارة الى حجم التراجع في الودائع منذ بداية الازمة في ايلول الماضي والبالغ 8 مليارات دولار، علما ان وتيرة نمو الودائع كانت سلبية منذ مطلع العام الماضي من 178 مليارا في نهاية 2018 الى 167 مليارا في نهاية 2019!
Views: 2