الكاتب: بشارة مرهج – البناء
عندما يحّمل رياض سلامة حاكم البنك المركزي الطبقة السياسية مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية فهو على حق، لأن هذه الطبقة ساهمت بجشعها واستهتارها وفسادها في استنزاف المالية العامة، بحيث أصبح العجز في الموازنة، ومعها العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ظاهرة مقيمة يصعب السيطرة عليها في ظل رفض هذه الطبقة ولوج باب الإصلاح. وفي ظل القيم المتداعية التي يدين بها أطراف هذه الطبقة المرتبطين مع بعضهم البعض بشبكة مصالح تأسرهم وتجعلهم كواسر يستعجلون سقوط الضحية للانقضاض عليها والتهام ما تبقى منها.
ولكن إذا كان الحاكم قد أصاب نجاحاً في توصيفه ماهية الطبقة الحاكمة، وإذا كان قد أتقن دوره في التمويه على إجراءاته وإغراق الآخر في مستنقع الأرقام الملتبسة والمعلومات الغامضة، إلا أنه حتى اللحظة لم ينجح في الإجابة المقنعة عن أي سؤال يتعلق بالسياسة النقدية التي يمسك بزمامها من غير شريك، بعد أن “تخلّى” له كبار المسؤولين عن صلاحيات المتابعة والمراقبة التي يتمتعون بها وأطلقوا يده في قيادة العمل المصرفي عبر تعطيل دور المجلس المركزي ودور مفوّض الحكومة لدى البنك المركزي وصولاً إلى تعطيل قانون النقد والتسليف نفسه.
ومقابل النجاحات الدعائية التي أحرزها “الحاكم” بالاستناد إلى شبكة واسعة متغلغلة في كل القطاعات ومستفيدة من “تقديماته” الباذخة (تسليفات بفوائد متدنية للمحظوظين أفراداً ومؤسسات، توظيفات أبناء وأقرباء النافذين، إغداق الرواتب والمخصصات الخيالية، استئجار خدمات إعلامية واعتماد أسلوب العلاقات العامة) فشل الحاكم في تبرير الخطوات الكبرى التي اتخذها خلال السنوات الماضية في مجال السياسة النقدية وإدارة الشأن المصرفي فاجتمعت أخطاؤه مع أخطاء المسؤولين عن السياسة المالية العامة لتسفر عن أزمة ضارية تضرب الاقتصاد الوطني وتقتات على مدخرات الناس وتنال من سمعة لبنان واقتصاده ومصارفه وسط إنكار مشبوه لأصحاب الشأن الذين يراوغون ويماطلون ويتقاذفون التهم دون أن يرف لهم جفن.
وبالحديث عن الودائع المحتجزة بأمر من جمعية المصارف وموافقة كلية من البنك المركزي فلا يمكن لأحد التكهن بما يمكن أن يترتب عن هذا الأجراء الذي قضّ مضاجع المودعين الذين يشعرون بغضبة عارمة تجاه من أمطرهم بالوعود وأوحى لهم بالثقة من خلال منظومة إعلامية محلية وخارجية تعرف التلاعب بالحقيقة وإلقاء الأضواء الساطعة على براعة الحاكم ومتانة القطاع.
وإذا كانت الغضبة قد تجلّت حتى الآن برفع الصوت والوقفات الاحتجاجية وبعض الحوادث الفردية، ومنها ما حصل مؤخراً في باحة البنك المركزي وشارع الحمراء، فإن الأمر حتماً سيتفاقم عند اشتداد الأزمة وتردي الخدمات المصرفية والطبية وفقدان بعض السلع المهمة من الأسواق والعجز عن شراء المواد الغذائية او دفع الإيجارات والأقساط المدرسية وسواها من الأمور الضاغطة التي تزيد من نقمة جمهور مقهور يعضّه الجوع ويستبدّ به القلق.
واذا كانت السلطة الحاكمة تواجه الواقع بالارتباك والإنكار، فإن الحاكم يتوجّه الآن من خلال الإعلام إلى مخاطبة الجمهور لطمأنته مرة أخرى ويرمي كرة النار في ملعب الجناح الآخر من السلطة، مذكراً الناس بأن الاحتيال والفساد يساهمان في تعطيل النمو الاقتصادي وكأن الناس التي اكتوت بنار الاحتيال والفساد بحاجة إلى معلومة جديدة في هذا المضمار. لا بل إن الحاكم يكاد يدخل البلاد في دوامة جديدة عندما يطلب صلاحيات استثنائية من أركان الدولة لتشريع عمليات السطو على ودائع الناس تحت عناوين مختلفة مع علمه بأن الأمر يحتاج الى قانون أو تعديل في الدستور لتغطية هذا الأمر الخطير الذي يغير من طبيعة النظام الاقتصادي الحر. هذا مع العلم بأن العمليات المصرفية الأخيرة اقتطعت نسبة مهمة من الفوائد المصرفية وتضمّنت نقضاً للاتفاق بين المصرف والمودع بالدولار، عندما أرغمت هذا المودع على قبض نصف فوائده المستحقة بالعملة اللبنانية وعلى أساس السعر الرسمي مما رتب عليه خسارة مفاجئة.
ولعل أخطر ما جاء في كتاب الحاكم إلى وزير المال طلباً للصلاحيات الاستثنائية قوله: “إن تطبيق بعض القيود على العمليات المصرفية أدى إلى إجحاف بحقوق العملاء ولا سيما لجهة المقاربة غير المتساوية مع عملاء آخرين”.
فهو هنا يعترف صراحة بأن إجراءات المصارف لم تكن عادلة ومتساوية تجاه الجميع، بل إنّها ميزت بين أصحاب الودائع فحرمت البعض من بعض حقوقه في السحب والتحويل، فيما سهلت الأمر لآخرين من سياسيين ومتمولين ومساهمين، مما يعرّض بعض أصحاب المصارف ومديريها للمساءلة والملاحقة القضائية، وهذا ما يجب أن يحصل بالفعل لأن تغييب العدالة يؤدي الى انتشار الجريمة.
ولكن الحاكم إذ يطلب هذه الصلاحيات الاستثنائية من دون أن يحدّد تماماً ماهية هذه الصلاحيات وسقفها ومداها الزمني، فإنه حتى الآن لم يبادر من موقعه الرسمي الى مساءلة أصحاب هذا الإجحاف وهذا التفاوت في معاملة المودعين، وكأن الذي يحتجز أموال الناس ويميز بينهم ويتلكأ في استعادة الأموال المنهوبة ويماطل في زيادة رأسمال المصارف هم مجرد أشباح لا تشملهم المساءلة أسوة بالذين استفادوا بغير وجه حق من الفوائد الفلكية ودمج المصارف فضلاً عن الهندسات المالية التي كلفت الخزينة ما يقارب العشرة مليارات دولار؛ وهو مبلغ كبير قادر اليوم لو وجد بيد البنك المركزي أن يحتوي أزمة السيولة التي تسمّم الوضع الاقتصادي برمّته.
والحاكم هنا عبر كتابه يعرف تماماً عما يتكلم. فثمة مجموعات استفادت من التمييز الذي يتحدث عنه في التعميم ومن واجبه إذا أراد استعادة الثقة بالقطاع المصرفي إلغاء هذا التمييز واسترداد الأموال التي خرجت بقوة النفوذ، وإلا كان كمن يكرّر تجربة الوسيط الأميركي الشهير برنارد مادوف الذي هدر 50 مليار دولار دون أي إحساس بالمسؤولية..
إن حلّ هذه الإشكالية أمر لا بد منه قبل الانتقال الى خطوة أخرى. وإذا كان هدف التعميم تغطية الذين خالفوا بالتعاون مع متواطئين في القطاع المصرفي فهو مرفوض جملة وتفصيلاً، أما اذا كان هدفه تعميم المساواة وتأمين حاجات الناس تدريجاً فأمر يمكن البحث فيه من زاوية إيجابية. لكن الإشكالية الأخرى التي ينبغي للمراجع المختصة البحث فيها أيضاً فهي المتعلقة بالصيارفة لجهة بروز سعر واقعي جديد ومرتفع للدولار. وهذا أمر ما كان له أن يحدث لولا تواطؤ البعض ممن نهبوا المال العام وأصبحوا قادرين على إنزال العملة الأجنبية إلى السوق بمقادير مدروسة تكفل لهم تحقيق أرباح هائلة على حساب الناس ولا سيما الفقراء منهم، وكل ذلك في مرحلة تعاني فيها البلاد من شح السيولة وتفكك السلطة وتلاشي الأمل. وإذا كان الحاكم مصراً على التعامل مع هذه الظاهرة كما فعل بالأمس، فمعنى ذلك أن لا إرادة معلنة للتصحيح وأنما المضي في السيناريو الحالي الذي يستفيد منه الذين انفسهم استنزفوا الدولة في الماضي.
Views: 5