يخطر في بالي دائماً أن أسأل الناس عموماً ما الذي يعنيه «الوطن» لكم بعد هذه المحنة التي سحلتنا وهشّمتنا وجعلت أرواحنا تهيم مثل المجانين في جهات الأرض الأربع؟… وبعيداً عن الهم المعيشيّ وحملات السعار المتنوعة وبنوعٍ من سوريالية شاعرية أو غنائيةٍ رومانسية قد تبدو في غير وقتها إلا أنني توجهت بهذا السؤال لكاتبين مقيمين وشاعرة مهاجرة، فكان هذا الاستطلاع الذي سأسمح لنفسي أن أبدأه بما دوّنته شخصياً حين كنت أدرس في اسكوتلندا مع ملاحظة ضرورية هي أنني سأكون أميناً قدر الإمكان لما قاله المشاركون حتى لو بدت مقاطع طويلة نسبياً؛ فجمالية ما قالوه تجعلني حريصاً على إبقائه كما قيل:
«لأكتبَ عن مدينة كـ «إدنبره» يلزمني مطرٌ كالمطرِ الهاطل خلف النافذة من دون توقف منذ الصباح. قلتُ مرةً إنّ المطر، في أي مدينة أخرى، يبدأ كمطرٍ في حكاية، كحنين للبدايات، كنداء استغاثة، لكنه هنا هو الحكاية كلها، هو الدهشة التي تلفك كأنفاس ساخنة، هو موسيقا هذي المدينة، تأنيبٌ لعاشقٍ نرجسيّ، وعدٌ بليلة حب، عشرُ قصائدَ بطعم الملح، ووجعٌ لا يداوى. لكنني أكتبُ عن «إدنبره» وأنا ممتلئ بمدينة اسمها دمشق تلاحقني حتى وأنا أمشي تحت المطر الاسكوتلندي المعجزة. هل تعلمون أن وجه المرء يشبه صورة المدينة التي يسكنها؟ لكنني أنا الغريب كلما نظرت في المرآة لأتأكد من ذلك أرى مجنوناً بوجهين: وجه الدمشقي المغمور بالياسمين، ووجه الغريب بعينين مدهوشتين. فأيهما أنا؟. في هذا البلد الغريب عيونُ الناس واثقةٌ، مرحة، رجراجة كالماء، بعضها مخيف، وأخرى ضفدعية أو كلبيّة ناعسة، ومنها خائف مني، متفحص لي، أنا الغريب القابع في إحدى زوايا الـ «كافيتيريا» أراقبهم بالمقابل. عيونٌ خضراء، عسلية، زرقاء، وقد تصادف عيوناً سوداء فاحمة أو بنية كستنائية تفتقد لمسةَ الحزن التي تسِمُ عيونَ من عرفتهم في بلدي وتضفي عليها جاذبيةً لا تُقاوَم».
فيما قالت الروائية هلا علي صاحبة رواية «إيميسّا»: «الوطنُ مفهومٌ سهلٌ ممتنع، عصيُّ على التعريف رغم بساطته الظاهرة. هناك مثلٌ ألماني يقول: (الوطن هو الوطن) بمعنى أن لا شيء يحلُّ محلَّ الوطن وأنّ الوطن الأم يتربع على عرش الأوطان الأخرى التي يمكن أن يحل المرء بها، بحيث يمكن القول مع فولتير: (إنّ خبز الوطن الجاف أشهى من كعك الغربة) ولو سلمنا جدلاً أن هذه المقولة صحيحة فلماذا هي كذلك؟ هل لأن الوطن هو مسقط الرأس؟ أم لأنه الحيز المكاني المحتوي لحيّز زماني واسع عريض بمعنى أنه مخزن ذكريات المرء في الأسرة والعائلة والصداقات والحب… بالتالي هو مستودع الوعي واللاوعي الذي لا يمكن استبداله أو تعديله؟! ربما يكون كل ذلك لكن ليس بالضرورة، فها هي نوال السعداوي على سبيل المثال ترى أن الوطن لا يقتصر على مسقط الرأس، إذ يمكنه أن يتسع حتى يشمل العالم كله، فالوطن من وجهة نظرها هو حيث تكون حرّاً، وحيث لا تكون حراً فأنت غريب».
وتقتبسُ الروائية علي من «باربارا كاسان» الكاتبة والباحثة الفرنسية قولَها «المكانُ القادر على أن يولّد فينا حنيناً لتفاصيله هو وطنٌ لنا حتى وإنْ لم يكن الوطن الأم» وتختم بشيءٍ من حسرةٍ مبطّنة: هذا ما دفع الفيلسوف العربي المصري عبد الرحمن بدوي ليقول في سيرة حياته «إنّ الوطن هو حيث تُحقِّق ذاتك، وحين لا تجد سبيلاً لتحقق ذاتك فأنت غريبٌ حتى في مسقط رأسك». ويعلنَ أنه طوال حياته كان متبنّياً قولَ الشاعر: «وإذا نبَتْ بكَ أوطانٌ نشأتَ بها/ارحلْ فكلُّ بلادِ الله أوطانُ».
الروائي محمد حسين يستفزّه السؤال فيقول بتلقائية: «الوطن هو الوطن، هكذا ببساطة بعيداً عن التعاريف الأكاديمية التي تربطه كَثوْرٍ إلى الجغرافيا أو تحيله إلى مومياءٍ هشّةٍ في كتبِ التاريخ، ولأنه كذلك فهو سورية بعيداً عن التوصيفات التي قد تزيدها غموضاً وابتعاداً والتباساً، فالوطن لا يمكن أن يسكنَ في لغة مهما اتسعت دائرة مفرداتها وتعابيرها. ما الوطن إذاً!؟ يسقطُ هذا السؤال على أُذُنِ السوريّ المقيم والمهاجر-لا فرق- كالصاعقة فينتفض وكمَنْ ينكأ جرحَه الطازج يصرخ متأوهاً وطني، جرحي بضفتيه ودمي المُراقُ يرسم حدوده، آهي التي تلامس السماء، صاريةُ علمه الخفّاقة، فالوطن هو الهوية… لكن ماذا عن «هوياتنا القاتلة» التي تعيش على التناحر وتقتات على الحزن والثأر حسب رأي أمين معلوف؟.
لكن حسين يضيف نكهة القصّ الروائي ويُكمل: «أقول لنفسي الأمّارة بالحب وأعيد دوْزنة أفكاري. فربما يكون الوطن جواز سفر كما يقول مهاجر ضاقت به السبل أو بطاقة ذكية كما يقول مقيمٌ ضاق ذرعاً بالبرد والجوع، وربما بطاقة هوية كما يقول متثاقفٌ مصابٌ بلوثة الحنين، الوطن شتلةُ تبغٍ أو «باكيت حمرا طويلة» كما يقول مدخّنٌ عتيقٌ وحضن امرأة دافئ كما يقول عاشق منفطِرٌ أو موالٌ حزينٌ كما يقول عجوزٌ يحنّ إلى صباه أو كمشة تراب كما يقول متفلسف يعيش على اليوتوبيا أو منزل وزوجة كما يقول شابٌ مقبل على الحياة، أما أنا فأقول: وطني هو كل ما سبق بكل الالتباسات، بغموضها الإيجابي ولأنه كذلك فهو كالحبيبة المشتهاة المتمنّعة، كالحلم العصيّ البهيّ يبدأ من أول الكلام ويفيض بلسماً من غفران ومحبّة، تسامحاً ومصارحة ومكاشفة لمرة واحدة وإلى الأبد».
كلامُ حسين عن جواز السفر والهجرة أبحر بي نحو الشاعرة سمر محفوض المقيمة حالياً في ألمانيا والتي لم تُخفِ غصّة الحنين وبحّة الوجد في كلامها عن الوطن وهي تقول: «الوطن هو النبل والعذوبة. هو الفرح الملون في حناجر الأطفال وهم يغنّون في مدارسهم أشعار نزار قباني وليس محفوظاتٍ تلقينية غيبيّة. الوطن سطح بيت أهلي في الضيعة. طعمُ التفاحات التي زرعها والدي. الوطن دقّةٌ على الباب ودقّة أخرى في القلب. لكنه بالنسبة لي أيضاً هو خيباتُ أملٍ ورهاناتٌ أثبتت فشلها الذريع. هو حنينٌ أصيلٌ فينا أمّا الغربةُ فردوسٌ فُرِضَ علينا لنحقق فيه أحلامنا. الوطن رغبةُ خلاصٍ، عبءٌ وخفّة، ودمشقُ وحدها مدينةٌ حاضرةٌ في الذاكرة بقوّة الحنين عند كل من مشى فيها يوماً. هي مدينةٌ لها «ملائكتها» و«عفاريتها»، لها سورها وأناسٌ يلفّهم الغموض والوجع والأسرار خلف السور، مدينةٌ لها ظلالها وأشباح ماضيها التي تصرخ من دون تجدد».
وتنوّه محفوض بكلامٍ يَشي بقليل من الحنَقِ يغلّف إعجاباً مضمراً إلى إشكاليةٍ قديمة جديدة هي علاقة الشرق بالغرب من شعور مماثلٍ جعلَ عينيّ ترمشان وهما تراقبان ذاك «الآخر/الأجنبي» فيما هو حسب الشاعر أدونيس «أحد عناصر تكوين الذات…لأنه المُختلِفُ المؤتلِف وعلاقتنا معه هي علاقة التغايرِ الموحِّد». تقول محفوض:
«سمعة العربي مشوهة في ثقافة الغربي الذي لا يعرف شيئاً عن ثقافتنا غير ما يجهزه له إعلامه، وبالمقابل نحن نعرف كل شيء تقريباً عن ثقافتهم وفلاسفتهم وشعرائهم وتاريخهم وهذا ما يُفرحهم ويزيد من سطوتهم. لذلك أحاول بالشعر وبصحبة قلة من المفكرين التعريف بالثقافة العربية خاصة في مناقشات سجالية حول المسكوت عنه. لقد عشتُ زمنَ عاصفة الحرب على وطني سورية سبعَ سنواتٍ في غرفة/قبو مع ابنتي، واليوم أعيشُ الوقتَ بهدوءٍ في غربتي في ألمانيا مواجِهةً كلَّ من يتّهم بلدي، وأقول إننا ضحيةٌ سواء في الوطن أو في الغربة مع فارقٍ مؤلم هو أنّنا نجد في الغربة احتراماً لاجتهادك وعِلْمك وعملك ومواطَنَتِك».
Views: 5