كما كان رحيل أو بقاء الرئيس السوري بشار الأسد محور انقسام حاد إقليمي ودولي، فان خروج أو بقاء إيران على الساحة السورية يُشكل احدى العقد حاليا بشأن مستقبل عدد من العلاقات السورية العربية والسورية الغربية. لكن هذا الأمر يُعتبر ورقة رابحة في يد دمشق، ذلك ان التواجد العسكري الايراني المباشر قابل للانتهاء في سوريا تماما كحال حزب الله، بعدما يستعيد الجيش السوري سيطرته على كافة المناطق وفق ما بشّر به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أولا : كيف تطورت العلاقات الايرانية -السورية التي نسجها بدقة الرئيس حافظ الأسد مع القيادة الايرانية، ووظفها في علاقاته مع الخليج، وفي تموضعه اللافت آنذاك على الساحة الدولية خصوصا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تماما كما وظفها في الصراع المرير مع إسرائيل؟
كان القلق السوري قد بلغ ذروته بعد اجتاح العراق من قبل الجيشين الأميركي والبريطاني بدون قرار دولي من مجلس الأمن. كانت غطرسة المحافظين والمبشّرين الجدد في الإدارة الاميركية قد فاقت كل التوقعات.صار التهديد العسكري المباشر يطرق بقوة أبواب سوريا بتهمة إعاقة هذا الاجتياح والتمهيد لضرب الأميركيين، وأيضا بهدف اضعاف آخر دول الطوق الداعمة للمقاومة والرافضة استمرار الهيمنة الإسرائيلية. جرى كل ذلك بعدما فشل التفاوض الإسرائيلي-السوري برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون في أواخر عهد الرئيس حافظ الأسد، وتنكّرت تل أبيب لما سميت ب ” وديعة رابين” أي بقبول رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل بالانسحاب من كامل الجولان مقابل السلام.
ذهب الرئيس السوري بشار الأسد في 16 آذار/ مارس 2003، للقاء المسؤولين الإيرانيين في طهران. كان اللقاء مع مرشد الثورة السيد علي خامنئي حاسماً وواضحاً في الذهاب صوب مقاومة أميركا في العراق. يتبين مما تسرّب لنا من محضر تلك الجلسة أن الأسد قال لمضيفه الإيراني: «لم نكن في بداية الأمر راغبين في الحرب لمعرفتنا بضررها الكبير، لكننا لا نستطيع أن ننتظر مجيئها إلينا، وتعلمون أننا وإياكم الوحيدون في المنطقة الذين نملك قرارنا، وباعتقادنا أن إطالة أمد الحرب هي أهم ما يمكن أن نعمل عليه لأن ذلك سيؤدي إلى إنهاك أميركا وإغراقها أكثر في الوحل العراقي. صحيح أن الكثير من الشعب العراقي لا يحب صدام حسين، لكنه لن يقبل احتلالاً أميركياً على أرضه، ونحن على اقتناع بأن مقاومة ستنطلق ضد هذا الاحتلال ولا بد لنا من التنسيق قبل الحرب لأنه في حال نجحت أميركا في العراق فستصبح إسرائيل هي التي تقرر مصير جميع الدول بما فيها سوريا وإيران وسوف تنتقل الحرب ضد الفلسطينيين وتستهدف القضاء على المقاومة. ونحن نعتقد أنه علينا الآن التركيز على المواطن العراقي غير المرحب بالأميركي وغير المرتبط بواشنطن ولا ينتمي إلى أي جهة، يجب أن نعمل على إفشال أميركا في العراق، وإن لم نستطع هزمها يجب أن نساهم في إبقاء الوضع متفجراً وأن تحصل عمليات استشهادية، ذلك أن أكثر شيء يرعب الأميركيين هو أن نقول لهم إن أبناءكم سيقتلون في العراق».
كان لسان حال الأسد في كل اللقاءات مع خاتمي أو خامنئي أن الحل هو فقط بالإعداد للمقاومة خصوصا بعدما تبين أن كل تعاونه مع الاميركيين لمكافحة الإرهاب عبر الحدود لم يغير شيئا في نظرة المحافظين الجدد في الإدارة الاميركية لدمشق وطهران كمحورين للشر. وهو إذ وجد بعض الحذر الدبلوماسي عند الرئيس الايراني آنذاك محمد خاتمي وفق ما تظهر محاضر الجلسات، فإن مرشد الثورة وافقه تماماً على ضرورة المقاومة.
اعتبر خامنئي أن المقاومة ودعمها في العراق هما الأساس على الرغم من أن سوريا وإيران كانتا آنذاك على طرفي نقيض مع بعض المعارضة، كما أن دمشق كانت قد بدأت ( قبل الاجتياح) بإقامة علاقات مع العراق حتى ولو أن التقارب مع صدام كان فاتراً أو شبه معدوم بسبب أحقاد الماضي. فقبيل الحرب بفترة قصيرة ذهب رئيس الوزراء السوري محمد مصطفى ميرو إلى بغداد وقدم لصدام حسين سيفاً دمشقياً تعبيراً عن التضامن وطي صفحة الماضي. وما لم تقله الهدية، أوضحه ميرو بقوله لصدام: «إن العدوان على العراق هو عدوان على سوريا»، ثم إن الأسد نفسه كان قد استقبل من كانوا بالأمس القريب أشد خصومه في العراق: علي حسن المجيد وطه ياسين رمضان وغيرهما، وفتحت دمشق أبوابها لقادة العشائر ومسؤولين من المعارضة والكرد.
اللافت منذ تلك اللقاءات بين الأسد والمسؤولين الإيرانيين أو التي قام بها أيضاً نائب الرئيس عبد الحليم خدام آنذاك إلى بغداد، أن القلق من الفتنة المذهبية كان الشاغل الأول. كان الأسد يقول لمحادثيه في معظم اللقاءات إن أميركا قد تنجح فقط إذا ما خرقت النسيج الداخلي العراقي ولذلك علينا جمع العراقيين والتواصل مع كل المعارضة. وهو ما كان يقوله أيضاً الإيرانيون وخدام. وهو ما ردده لاحقاً وفي أكثر من خطاب السيد حسن نصر الله معتبراً أن إسرائيل وأميركا عجزتا عن ضرب المقاومة بالقوة وأنهما ستلجآن إلى تفخيخ العرب والمسلمين بالفتنة السنية الشيعية.
كان لافتاً أيضاً أنه في خلال لقاءات الأسد في إيران، كان الطرفان على اقتناع بأن المشاريع التفتيتية والتقسيمية تستهدف السعودية إضافة إلى إيران والعراق وسوريا، ولو بنسبة أقل. ويعجب المرء ان دمشق وطهران كانتا تعتبران ان سقوط النظام السعودي في حينه سيؤجج الفوضى ويأتي بتكفيريين الى الحكم السعودي، ولذلك حرصتا على العمل لمنع حصول ذلك.
شعرت سوريا آنذاك، بانها ستكون الهدف التالي بعد اجتياح العراق، وان السبب هو موقفها من إسرائيل، ولذلك لم تجد وسيلة أخرى سوى تعزيز دورها في تأسيس ما سيصبح لاحقا ” محور المقاومة” . ولم تكن هذه فقط قناعة القيادة السورية، وانما أيضا بعض معارضة الداخل.
يقول عبد العزيز الخيّر المعارض الماركسي: «جاء احتلال بغداد في سياق مشروع الشرق الأوسط الكبير ليرفع المخاطر والتهديدات إلى مستوى شديد السخونة، وليتبعه بلا إبطاء تفاهم أميركي-فرنسي على تغيير الوضع في لبنان ومباشرة الضغوط والحصار على النظام لإخضاعه سياسياً واقتصادياً للمشروع الجديد بلا قيد أو شرط، كحلقة يتعين إسقاطها لإسقاط سائر حلقات المحور الذي يندرج فيه مع إيران وحزب الله وحماس، ذلك المحور الرافض لمشروع الشرق الأوسط الكبير. وقد استمرت تلك الضغوط حتى نهاية العام 2008 عندما فشل العدوان على غزة في إسقاط حماس كما فشلت محاولة استئصال حزب الله في لبنان عام 2006».
هذه القناعة التي تولدت أولا من ردة فعل أميركا على سوريا بعد الاعتداءات الإرهابية على برجي التجارة العالميين في نيويورك في العام ٢٠٠١، رغم عدم علاقة دمشق بالأمر، ثم بعد اجتياح العراق، وقبلهما بعد الانسحاب الإسرائيلي المفاجيء من لبنان في العام ٢٠٠٠، جعلت الرئيس بشار الأسد يقتنع وأكثر من أي وقت مضى، بان التحالف الاستراتيجي مع طهران أمر حيوي لمستقبل سوريا.
تعددت المبادرات واللقاءات بين ايران وسوريا. طارت الصورة التي جمعت الأسد في العام ٢٠١٠ مع الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله عبر العالم. وقرر السيد خامنئي بعد فترة تردد بسيطة من قبل ادارته حيال سوريا بفتح كل أبواب المساعدات العسكرية والأمنية والمالية والاقتصادية للقيادة السورية بغية مواجهة الحرب.
ثانيا: ماذا عن واقع الحال بين ايران وسوريا؟
ثمة مغالاة كثيرة في الحديث عن ” هيمنة إيرانية” وعن ” عمليات تشيييع واسعة” وعن ” تغلغل إيراني” في النسيج السوري، وذلك لسببين، أولهما ان هذا النسيج بقي طيلة قرون عصيا على الاختراق من قبل الخارج، وثانيا لأنه بعيدا عن الحرس الثوري الذي كانت له اليد الطولى في دعم سوريا في خلال الحرب، فان الإدارات الايرانية تتعامل مع دمشق من منطلق المصالح المشتركة ماليا واقتصاديا، أي من خلال الديون وليس الهبات، وهو ما أدى لاحقا الى منح المستثمرين الايرانيين بعض التسهيلات في عدد من المناطق والمرافق لتسديد هذه الديون على المدى الطويل.
صحيح ان السياحة الدينية الايرانية الى سوريا كانت لافتة رغم الحرب، وصحيح أيضا ان ثمة مساجد جديدة أقيمت، وصحيح ثالثا ان البعض اشترى أراض وعقارات، لكن كل ذلك لم يؤد حتى الآن الى تشكيل بنية ” شيعية-فارسية” في سوريا كما يعتقد غير العارفين، وانما بقي في اطر محدودة.
أما ما يحكى عن تأسيس خلايا مقاومة ضد إسرائيل في المناطق الحدودية، فهذا صحيح ولكن كل ذلك يبقى تحت سقف وغطاء الجيش السوري، ومن يعرف طبيعة وتركيبة هذا الجيش، يدرك أنه من المستحيل تأسيس أي خلية أمنية بعيدا عنه او مستقلة او تابعة لطرف آخر. وهنا يختلف الأمر تماما بين الايراني والروسي، ذلك ان التحالف التاريخي بين روسيا وسوريا، قارب كثيرا بين عقليات ومفاهيم الجانبين على مدى عقود طويلة، وهذا ليس أمرا طارئا او جديدا، وهو حتما سيستمر حتى بعد الخروج العسكري الايراني.
ثالثا: ماذا عن المستقبل؟
من المنطقي القول ان لا حاجة عسكرية لسوريا في المستقبل بتواجد مباشر لقوات إيرانية او لحزب الله. فحين يستعيد الجيش السوري السيطرة على كل المناطق بدعم مباشر من روسيا، لا تعود ثمة حاجة لأي وجود عسكري آخر. وتزداد الحاجة الى الحضور العربي، ذلك ان إعادة الاعمار تتطلب ليس فقط حضورا للصين وروسيا وانما ايضا وخصوصا لدول الخليج التي باشر بعضها فعلا في فتح السفارات والشروع في وضع خطط للمساهمة في إعادة الاعمار والاستثمار.
هذه بالتالي ورقة تفاوضية رابحة بيد الدولة السورية. فاذا كانت واشنطن ودول الخليج والدول الاوروبية تشترط مثلا خروج هذه القوات ذات الثقل ” الشيعي” من سوريا، لكي تعيد فتح سفاراتها، او لترفع العقوبات، او لتسهل عمل الدولة السورية، فان دمشق تستطيع ان تستخدم ورقة الخروج العلني للقوات الايرانية ولحزب الله ( وبالتنسيق معهما طبعا) في أي وقت تراه مناسبا. هذا سيساعد كثيرا الحليف الروسي الذي أولا يفضل ان يكون هو وحده راعي المصالح السورية مستقبلا، وثانيا يستطيع ان يفاوض مع الدول العربية والأوروبية وأميركا وصولا الى إسرائيل بشأن هذا الأمر، بمعنى انه سيقول انه وجوده في سوريا كفيل بضمان أمن إسرائيل وانه ساهم في خروج ايران والحزب.
لعل الرئيس الأسد حاول ونجح الى حد ما في الحفاظ على الورقتين الروسية والإيرانية بيده، نظرا لتناقضهما في عدد من الملفات، رغم ما يقال عن ان طهران وموسكو هما اللذين أمسكتا بخيوط اللعبة السورية، ولذلك فمن المرجّح ان لا يتم الاتفاق على الخروج العلني للقوات الايرانية وحزب الله، الا بعد الاطمئنان الكامل على تطور العلاقات السورية العربية والدولية من خلال مشروع جدي لاعادة العمل الدبلوماسي، والا اذا ما شعرت دمشق بأن ذلك لن يسمح لروسيا بالتفرد بقرار مستقبل سوريا.
هذا كله بات قابلا للتحقيق. فالقوات الايرانية وقوات حزب الله لن تبق في سوريا بعد انتهاء الحرب، ولا حاجة أصلا لبقائها، وخروجها سيخفف عبئا ماليا كبيرا عنها. اما العلاقات الاستراتيجية مع طهران والحزب فهي كانت وستبقى من ثوابت السياسة الخارجية السورية.
Views: 3