ذهب إردوغان إلى خطوة أخرى علّه يقنع أوروبا والغرب بالوقوف معه من خلال فتح الباب أمام تدفق اللاجئين (أ ف ب )
عندما أمهل إردوغان، قبل 20 يوماً، الجيش السوري حتى نهاية شباط للانسحاب، كان واضحاً أنه يحتاج إلى بعض الوقت للتحشيد اللوجستي لعملية عسكرية واسعة في إدلب، من جهة، وأنه يتهيّب الدخول في صدام مباشر مع سوريا وروسيا من جهة أخرى. في هذه الأثناء، كان يواصل اللعب على التناقضات، ويطالب الولايات المتحدة بنصب صواريخ «باتريوت»، كما يطلب دعم «حلف شمال الأطلسي». الردّ لم يتأخّر كثيراً برفض الطلب التركي، سواء «الباتريوت» أو تدخّل «الأطلسي». ومع أنه وجد نفسه وحيداً في مواجهة سوريا وروسيا، فقد تغلّبت في داخله «عقدة الأسد» والعداوة لسوريا، واختار سياسة الهروب إلى الأمام والدخول في مغامرة دموية مع الجيشين السوري والتركي، بلغت ذروتها مع تسليح المعارضة بصواريخ محمولة مضادّة للطائرات السورية والروسية، ومع محاولة استعادة سراقب ومناطق أخرى بالقوة. اعتقد إردوغان أن «المفاوضات بالنار» يمكن أن ترغم السوريين والروس على قبول شروطه، لكن الردّ جاء في غاية القوة والصلابة، والنتيجة رمي الجنود الأتراك في «محرقة إدلب»، في ظلّ رفض التعامل بواقعية مع سؤال زعيم المعارضة، كمال كيليتشدار أوغلو، قبل أيام قليلة، عمّا تفعله تركيا في سوريا. ولم يكتفِ إردوغان بالاستثمار في الدم التركي، بل استكمل محاولات ابتزاز الأوروبيين، الذين لم يكونوا متحمّسين للقمّة الرباعية في إسطنبول، بالإعلان أن تركيا ستفتح أبوابها مع أوروبا أمام تدفّق اللاجئين السوريين.
الهلع الذي أصاب الأتراك، ولا سيما أمام المستشفيات، عكس حجم المأزق الذي تجد تركيا نفسها فيه. فالجميع يتساءل عن الهدف الوطني أو الأخلاقي الذي يسقط من أجله الجنود خارج حدود الوطن. ومواقع التواصل الاجتماعي التركية شهدت أوسع حملة مناهضة لزجّ إردوغان بالجنود في أتون النار السورية. وما الاجتماعات التي تداعت إليها الأحزاب التركية المعارضة لبحث الوضع سوى مظهر من مظاهر الشعور بمدى الأذى الذي تلحقه سياسات إردوغان في سوريا (وفي ليبيا) بتركيا، وسط أفق مسدود. وقد حاولت وسائل الإعلام التركية، ولا سيما الموالية لإردوغان، أن ترفع المعنويات المنكسرة في الشارع التركي بمواصلة تكرار عرض مشاهد لضرب قوافل من الجيش السوري، بل إن القضاء فتح تحقيقاً في ما عرضته مواقع التواصل الاجتماعي من صور عمليات نقل القتلى والجرحى وتجمّع الناس أمام المستشفيات كما الأخبار عن الخسائر، والذي ساهم في فضح حقيقة ما يجري في إدلب. ومحاولة إردوغان التغطية على خسائر جنوده في ليبيا، وتهريب جنازاتهم في تركيا خارج أي مراسم عسكرية أو رسمية، لم تنسحب على إدلب، حيث الصفعة السورية – الروسية لم تترك لإردوغان وقتاً لتهريب آخر للجنازات. كلّ هذا سوف يضعف صورة إردوغان في الداخل التركي، وخصوصاً أنه تنتظره جلسة محاسبة عسيرة مغلقة يوم الثلاثاء المقبل، موعد انعقاد البرلمان التركي لمناقشة الوضع في الشمال السوري، والذي أعلن رئيس البرلمان، مصطفى شينتوب، أن بلاده ستعمل ما بوسعها لمنع تصاعده.
«المفاوضات بالنار» تسبق وتواكب المفاوضات التي لا بد أن تنتهي إلى تفاهم جديد«مقتلة إدلب» ستكون محطة فاصلة بين مرحلتين. وإذ ذهب إردوغان إليها وهو على علم كامل أن الغرب الأميركي والأوروبي والأطلسي قد تخلّى عنه، إنما جعل ظهره عارياً ومكشوفاً في غَلَبة واضحة لنزعة الانتقام والمكابرة والعصبية العثمانية على أيّ تفكير استراتيجي هادئ. هو أصرّ على الزجّ بجنوده في الميدان في محاولة لتحقيق مكسب بالسيطرة على بعض البلدات، ولا سيما سراقب، لكن النتيجة كانت كارثة وطنية غير مسبوقة في حجمها وتوقيتها وأهميتها. وإذ أدرك الحفرة التي أوقع فيها بلاده وجنوده ضحايا سياساته، حاول من جديد تطويق الخسارة بالاستنجاد مجدّداً بـ«الأطلسي»، الذي لم يخرج اجتماعه أمس بنتيجة محددة دعماً لتركيا سوى القول إنه يدرس خيارات دعم الدفاعات الجوية التركية. كذلك، ذهب إردوغان إلى خطوة أخرى علّه يقنع أوروبا والغرب بالوقوف معه ضدّ روسيا، من خلال فتح الباب أمام تدفق اللاجئين إلى أوروبا عبر اليونان وبلغاريا وتهديد أوروبا بهم.
لقد ارتكب إردوغان «حماقة دموية» عندما ذهب وحيداً ومعزولاً لمصارعة «الدبّ الروسي». وهو ما يُذكّر بـ«خطأ» إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. ومع عدم صدور نتائج مشجعة أو كافية، باعتراف رئيس لجنة الاتصال في القصر الرئاسي فخر الدين ألتون، ومع خيبة أمل تركيا، بتعبير إبراهيم قالين، الناطق باسم الرئاسة التركية، من الموقف الضعيف للجماعة الدولية، عاد إردوغان يتطلّع إلى بوتين علّه يخرجه من مأزقه، فاتصل به واتفقا على اللقاء قريباً جداً وجهاً لوجه، في ظلّ عدم توصّل لقاءات وفدي البلدين في مقرّ وزارة الخارجية التركية إلى أيّ نتيجة، بسبب إصرار تركيا على انسحاب الجيش السوري من المناطق المحرّرة، وإعلان روسيا الاستعداد لوقف نار دائم. وجاء تحديد موعد للقاء بوتين وإردوغان في 5 أو 6 آذار، وفي روسيا وليس في تركيا، ليؤكد منحى توسّل إردوغان من الروسي إخراجه من المأزق.
قد يحتاج إردوغان إلى مزيد من «المقتلات» حتى يقتنع بأن الغرب لن يساعده، وأنه ارتكب المحرّمات من خلال توقيع اتفاقية صواريخ «أس 400». «مقتلة إدلب» يفترض أن تؤسّس لمرحلة جديدة قوامها، في ظلّ التشفي الغربي منه، الانسجام مع التوجّهات الروسية، التي أساساً أعطت تركيا من المكاسب ما لم يعطه لها أيّ طرف آخر. وبالتالي، فإن «المفاوضات بالنار» تسبق وتواكب المفاوضات، التي لا بدّ من أن تنتهي إلى تفاهم جديد حول إدلب، في انتظار جولة أخرى من الكباشات والتفاهمات.
الاخبار اللبنانية
Views: 1