هي المصادفة ولا شيء آخر تلك التي جعلت من يوم الأحد 15 آذار الجاري موعداً لبدء تطبيق «تفاهم موسكو» المبرم ما بين أنقرة والأخيرة قبيل عشرة أيام من هذا التاريخ الأخير، إذ لطالما ارتبط ذلك اليوم في الذات الجماعية السورية، وهو سيظل كذلك لأمد بعيد، بذكرى رمزت لاندلاع شرارة الحرب الأولى في سورية وعليها، وبذاك اليوم، ستدخل تلك الحرب عامها العاشر الذي يحمل ولا شك آمالاً مشروعة بأن يطوى ملفها بين ثناياه لتذهب أحداثها إلى أرشيف التاريخ السوري في إضبارة ينوء حاملها بحمله وسيكتب على غلافها عندئذ بالخط العريض عنواناً لن يمحى هو « العشرية السورية السوداء».
قبيل أن يحين موعد 15 آذار كان هناك حدثان هامان لكل منهما دلالاته، الأول هو قيام الحكومة السورية بالإجراءات اللازمة لفتح طريق حلب اللاذقية المعروف بـ«إم 4» بانتظار ساعة الصفر التي إن حانت لحظتها وفق حسابات موسكو دمشق كما حددتها عقارب الاتفاق، فإن مدناً مهمة جديدة ستنضوي تحت ظل «أخضر النجمتين» مثل أريحا ومحمبل وجسر الشغور، والثاني هو ذهاب موسكو نحو تدعيم اتفاقها الأخير مع أنقرة عبر محاولة استصدار إعلان عن مجلس الأمن يقر بمتغيرات كانون ثاني وشباط الحاصلة في الشمال الغربي من سورية، والإقرار هنا من شأنه أن يكون داعماً لتفاهم موسكو الذي كان وسمه قد جاء إلحاقاً باتفاق سوتشي أيلول 2018، وعلى الرغم من أن المحاولة الروسية قد فشلت بفيتو أميركي دال على رهانات واشنطن الماضية نحو التغلغل من بين شقوق العلاقة الروسية التركية التي تزايدت بشكل ملحوظ منذ كانون الأول الماضي الذي شهد انطلاقة المحاولة الثالثة لإعادة إدلب إلى إمامة دمشق، ولربما كانت أولى تجليات الفعل الأميركي الماضي في استغلال ذلك النخر قد برزت في ما ذكره المرصد السوري المعارض في 9 آذار عندما أشار إلى انخفاض في أسعار المحروقات في مناطق سيطرة «هيئة تحرير الشام» بالتزامن مع سريان وقف إطلاق النار في إدلب، والانخفاض، يضيف المرصد، مرده إلى دخول مواد النفط «المكررة بدائياً» من مناطق سيطرة «قوات سورية الديمقراطية- قسد» إلى مناطق سيطرة «الهيئة»، وهو أمر لا يمكن له أن يحدث إلا بوجود موافقة أميركية لا لبس فيها، هذا إن لم تكن العملية تحتاج أصلاً إلى دعم لوجستي تنفرد واشنطن دون غيرها بقدرتها على توفيره، إلا أنها كشفت أيضاً عن غرب يسعى هو الآخر، كل بحسب أهدافه ومراميه المتناقضة أحياناً، إلى خلق سد منيع بوجه المحاولات الروسية الرامية إلى طي صفحة الأزمة السورية، فباريس اعتبرت الاتفاق هشاً وغامضاً، في حين عبرت برلين عن قلقها المتزايد تجاه الأزمة الإنسانية التي يمكن أن يحملها تجدد الصراع، إلا أن الموقف «الأخبث» كان قد جاء من لندن عندما سارعت المندوبة البريطانية كارن بيرس في جلسة مجلس الأمن التي انعقدت بناء على الطلب الروسي إلى التساؤل عما إذا ما كانت الحكومة السورية قد صدقت رسمياً على الاتفاق الروسي التركي، والخبث هنا يتأتى من تلميح بيرس إلى أن الاتفاق لا يرقى إلى مستوى طموحات دمشق التي لن تتحقق إلا بعودة كاملة لإدلب إلى حضن السيادة السورية بمعنى أن الأخيرة تنظر إليه على أنه محطة مؤقتة قد تطول أو تقصر تبعاً لتواتر الأحداث.
في الغضون برز إلى الواجهة موقف تركي دال وهو إيجابي أرادت أنقرة من خلاله تقديم عرض حسن نوايا تجاه التزامها وجديتها في تنفيذ تفاهم موسكو الأخير، ففي خلال مشاركته باجتماع لمحرري وكالة الأناضول التركية، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم الثلاثاء الماضي: «إن مناطق جنوب الطريق «إم4» ستخضع للرقابة الروسية في حين شماله سيخضع لمراقبتنا»، وهذا القول يعني ضمنا وجوب انسحاب الفصائل المسلحة من مناطق سيطرتها جنوب الطريق لمسافة لا تقل عن كيلومترات ستة كان الاتفاق قد أقرها جنباً إلى جنب مسافة مماثلة عن شمال ذلك الطريق، ثم تتالت التقارير التي تشير إلى سحب أنقرة للآليات والمدفعية الثقيلة من عمق مدينة ادلب بعد ساعات فقط على تصريحات أوغلو سابقة الذكر، إلا أن اللافت هنا هو مسارعة العديد من الفصائل المسلحة وعلى رأسها «الجيش الوطني» الموالي لأنقرة بعد هذا التصريح إلى رفض الانسحاب من «المناطق المحررة» بموجب أي اتفاق، بل إن بعضها من ذوي الإديولوجيات الجهادية الطاغية في تلك المناطق كان قد أعاد تجديد طلباته الموجهة إلى أنقرة بتقديم الدعم اللازم لاستعادة المناطق التي دخلت في عهدة الجيش السوري في غضون الأشهر الثلاث الماضية.
أشارت السياقات السابقة في غضون الأيام السبعة التي تلت الاتفاق وهي المهلة المحددة فيه للتوصل إلى تراجم ميدانية لتطبيقه إلى أن الاتفاق يقف على شفا حفرة من النار، وما زاد في الطين بلة هو تلك التقارير التي كانت تشير إلى استمرار أنقرة في إرسال المزيد من الأرتال العسكرية إلى المناطق الواقعة شمال خط «إم4»، ولا يبدو واضحاً هنا إذا ما كانت أنقرة قد استطاعت إقناع موسكو بأن ذلك الفعل، أي إرسال الأرتال، إنما يهدف لتعزيز الجبهة الداخلية التركية في مواجهة أخطار محتملة من الخارج، أو أنها استطاعت إقناعها بأنه يرمي إلى تنفيس الاحتقان الحاصل في الداخل التركي والذي قد يدفع إذا ما ظلت حاله كذلك إلى انقلاب جديد على نحو ما حصل في تموز من العام 2016، إذ لطالما كانت المناخات التي سبقت هذا الحدث الأخير شبيهة إلى حد بعيد بتلك التي يشهدها الداخل التركي في المرحلة الراهنة.
كانت مهلة الأيام السبعة التي انتهت بإعلان وزير الخارجية التركي خلوصي آكار يوم الخميس الماضي عن التوصل إلى اتفاق بشأن تفاصيل وقف إطلاق النار، مرحلة عصيبة لا تقل حساسيتها عن نظيرتها التي سبقت الإعلان عن «تفاهم موسكو» في الخامس من آذار الجاري، إلا أن إعلان آكار يعني في وجهه غير المرئي، مزيداً من الانصياع التركي للقبضة الروسية بعد نجاح هذي الأخيرة في الإطباق على خيارات أنقرة مستعينة بحالة الانكفاء الناتووي والأميركي على حد سواء عن أسوار هذي الأخيرة.
إذا ما انطلقت أعمال «اللجنة المصغرة» لإنجاز الدستور السوري في جنيف في 22 من آذار الجاري وفق الموعد الذي حددته الأمم المتحدة، فإن ذلك يعني قبولاً سورياً، هو أقرب لأن يكون محطة للاستثمار سياسياً في التعديلات الحاصلة على خرائط السيطرة الميدانية، وهو، أي ذلك القبول، سيشكل حافزاً لانكسار حواجز إقليمية، ولربما دولية لاحقاً، برزت تباشيرها مؤخراً في انفتاح ليبي ثم أردني على دمشق، لكن أبرزها على الإطلاق سيكون، فيما لو حصل، في تأجيل انعقاد القمة العربية المقرر انعقادها أواخر هذا الشهر في الجزائر، حيث العقدة هنا تكمن في حضور دمشق أو في استمرار تغييبها.
الوطن
Views: 10