تنبأت غونداليسا رايس بتفكك الاتحاد السوفياتي، عندما كانت صفتها الباحثة التي نالت شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية قبل أكثر من عشر سنوات من توليها أي مسؤولية حكومية، ونالت بسبب أطروحتها مكانة علميّة لفتت نحوها الأنظار ورشحتها للمناصب التي تبوأتها في عهد الرئيس جورج بوش الإبن، وقالت في وصفها لما سيجري في الاتحاد السوفياتي، وقد جرى فعلاً، «إن الإمبراطوريات التاريخية والدول العظمى المعاصرة، ترحل وتتفكك فجأة دون أن تمنحك مقدّمات تراقبها وتبني عليها سياقاً طويلاً ينتهي بالتفكك، إنها كما الطوفان والزلزال عملية تحدث فجأة، إنها تحدث وحسب». وهذا الكلام الذي صح في حال الاتحاد السوفياتي، لا يمكن إنكار إمكانية أن يصح أيضاً في حال غيره من الإمبراطوريات والدول العظمى.
ما يشهده الاتحاد الأوروبي هذه الأيام، بخلفيّة فهم إضافية لأسباب خروج بريطانيا من الاتحاد كعلامة على نهاية الزمن الافتراضي لعمر الاتحاد، وبدء تبلور أسئلة شعبية حول جدوى البقاء تحت عباءته، يقول إن مخاطر حقيقية تتهدد استمرار الاتحاد، الذي فقد وظيفته في الجغرافيا السياسية والاقتصادية الدولية كإطار جامع لأوروبا بغربها وشرقها يتيح بقوة الحوافز المالية، الحلول مكان حلف الأطلسي، لمحاصرة روسيا داخل حدودها، وهو اليوم يفقد قدرته على تقديم نموذج قادر على الحياة في مواجهة نوعين من الأزمات، لا مبرر لبقائه إذا عجز عن إثبات أنه آلة جماعية أشدّ فعالية من القدرات المنفردة للدول على مواجهتها، النوع الأول هو أزمات الانهيارات المالية التي عصفت باليونان وإيطاليا وإسبانيا، وظهر خلالها الاتحاد، بخلفيته الفرنسية الألمانية، جهة مصلحية تتخذ مسافة من الدولة المهددة، وتكون مساهمتها محكومة بسقف هو الإقراض كما يفعل صندوق النقد الدولي، مقابل شروط، والنوع الثاني هو التهديد الذي مثله فيروس كورونا، حيث لم يظهر الاتحاد أنه موجود، وبدت خطط المواجهة محلية حصراً، كما بدا العجز محلياً، لكن بدت المعونة حاضرة من خارج الاتحاد، وخصوصاً من الصين وروسيا، المفترض أنهما من خارج نادي الأصدقاء التقليديين.
عندما يدخل الصينيون بمئات الأطباء والخبراء وأطنان المعدات والمستشفيات الميدانية إلى إيطاليا، وعندما يحرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الطريق البري لشاحناته العسكرية لنقل المساعدات والخبراء والأطباء نحو إيطاليا، فليس من المبالغة القول إننا أمام حركة معاكسة لسقوط جدار برلين، ونحن نرى بأمّ العين أن دول أوروبا الشرقية تتهم بالخيانة أوروبياً، وهي تتوجّه بالشكر على المعونة الصينية والروسية كما فعل رئيس صربيا، وتتسابق بإعلان تخلّيها عن علم الاتحاد الأوروبيّ، وعندما نرى المشهد يتكرّر بقوة في إيطاليا وإسبانيا، بإنزال أعلام الاتحاد الأوروبيّ، ونقرأ مقالات وآراء لقادة في الدولة والأحزاب تطرح أسئلة وجودية حول فرص البقاء في الاتحاد الأوروبيّ، وصولاً للتشكيك في مبررات بقائه، عندها علينا أن لا نتردد في طرح السؤال عما إذا كان الاتحاد، وربما منظومة اليورو، وليس منظومة الشنغن فقط، تتهدّدهم مخاطر الزوال؟
في الولايات المتحدة الأميركية أسئلة لا تقل خطورة تتعالى أصواتها في العديد من الولايات الأميركية، حول النظام الفدرالي وماذا يقدم لولاياتهم، خصوصاً بالنسبة للولايات الأكثر دخلاً ومساهمة في الميزانية الفدرالية، ومع تفشي فيروس كورونا، ظهرت الحواجز على مداخل الطرق الكبرى التي تربط الولايات ببعضها، توحي بأن المطلوب تأشيرة دخول تمنحها الولاية لأبناء الولايات الأخرى ليتاح لهم الدخول إلى أراضيها. وهذا كافٍ للقول إن النظام الفدرالي أصيب في الصميم، وتقدم ولاية نيويورك نموذجاً عما تعانيه مع النظام الفدرالي عبر المشاهد التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي لمستشفياتها، بحال تدعو للشفقة، على مرضى يتوزعون أسرة حديدية صدئة، في الممرات والباحات الخلفية ومواقف السيارات، وأسئلة كبرى عن جدوى البقاء في النظام الفدراليّ ما دام عاجزاً عن تقديم النجدة عند وقوع الكارثة، وبعد زلزال كورونا لن يكون مستغرباً، مع تداعي البورصات والنظام المصرفي، أن نشهد تصاعداً في النقاش حول مبررات تحمل الشراكة في الخسائر، وحول جدوى النظام الفدرالي نفسه، تلاقي دعوات استقلال، قديمة متجددة لأصوات وازنة في عدد من الولايات تنادي بالتمرّد على الصيغة الفدرالية، وستلقى مزيداً من المؤيدين كلما بدا النظام الفدرالي عاجزاً.
Views: 2