شهدت تركيا أكثر من 20 تمرداً دينياً حتى وفاة أتاتورك نهاية العام 1938، مع استمرار العداء العربي الإسلامي له، بحجة أنه قضى على السلطنة والخلافة، وألغى الأحرف العربية.
شاء القدر أن يحيي الأتراك ليلة القدر مساء الثلاثاء الماضي، بعد أن احتفلوا في ذلك اليوم بالذكرى السنوية الواحدة بعد المئة للمسيرة التي بدأها مصطفى كمال أتاتورك على طريق حرب الاستقلال، التي توّجت بإعلان الجمهورية في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923.
وسبق ذلك قرار أتاتورك بإلغاء السلطنة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1922، بعد أن أصدر السلطان وحيد الدين فرماناً بإعدامه، ليغادر إسطنبول المحتلّة من طرف الإنكليز، على متن سفينة بريطانية في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1922.
دفع موقف السلطان هذا مصطفى كمال أتاتورك إلى اتخاذ قرار آخر في 2 آذار/مارس 1924، ألغى بموجبه الخلافة الإسلامية، ومقرها إسطنبول، التي لم تعد عاصمة للجمهورية التركية الحديثة.
وجاء قرار أتاتورك في الأوّل من تشرين الثاني/نوفمبر 1928 بإلغاء الأحرف العربية، لتحل محلها أحرف لاتينية، بمثابة الخطوة الأخيرة على طريق “الانفصال العقائدي والاجتماعي” التركي عن محيطه العربي، والذي كان مقطوعاً أساساً بسبب سلبيات الحكم العثماني الذي دام 400 عام.
وجاء الإعلان في آذار/مارس 1928 عن تشكيل تنظيم حركة الإخوان المسلمين في مصر، وهي الدولة التي توازن بثقلها الإقليمي تركيا، ليكون بداية الصراع العقائدي بين العلمانية والمحسوبين على الدين داخل تركيا وخارجها.
وقد استغلَّت الدول والقوى الاستعمارية هذا الصراع بشكل ذكي جداً، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى معسكر رأسمالي إمبريالي، وآخر ماركسي شيوعي لا يعترف بالدين، فأجّج الصراع بين أتباع الطرفين، أياً كانوا، وخصوصاً في الدول والمجتمعات الإسلامية، بعد أن أعلنت أنظمتها ولاءها لأسياد المعسكر الأوّل.
وكانت المملكة السعودية حتى منذ “استقلالها” في العام 1932، في مقدمة هذه الأنظمة التي اعتبرت العداء للجمهورية التركية الحديثة، كما هو الحال في عدائها للخلافة والسلطنة العثمانية اعتباراً من العام 1790، جزءاً من مشروعها الإسلامي الوهابي الذي صرفت من أجله مئات المليارات من الدولارات، فدمرت بها العالم العربي، وألحقت بإسلامه ما يكفيه من الأضرار.
وعودة إلى تركيا حتى وفاة أتاتورك نهاية العام 1938، فقد شهدت أكثر من 20 تمرداً دينياً، مع استمرار العداء العربي الإسلامي له، بحجة أنه قضى على السلطنة والخلافة، وألغى الأحرف العربية، وهي الحملة التي لم يكن لها أي معنى، لأن أتاتورك عندما ألغى السلطنة والخلافة، كانت الدولة العثمانية قد انقضت بالكامل، وكانت تركيا الحالية محتلة من بريطانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا وروسيا، وكان الخليفة وحيد الدين متواطئاً مع المحتل.
أما الحديث عن إلغاء الأحرف العربيّة، فهو الأغرب، لأن اللغة التركية ليست عربية، ولا يمكن لأي عربي أن يقرأها أو يفهم منها أي شيء، لأنها خليط من التركية والعربية والفارسية، وكانت نسبة الأمية آنذاك حوالى 99%، أي لم يكن أحد يقرأ هذه الأحرف أو يفهمها، لأن الكتابة العثمانية بالأحرف العربية صعبة جداً، ولا يمكن أن يفهمها المرء إلا إذا كان على علم بالعربية والتركية والفارسية، وهو أمر مستحيل، لأنني من المطّلعين على هذه اللغات الثلاث، يضاف إليها العثمانية، التي كانت تستخدم الكلمات العربية في غير مكانها، فعلى سبيل المثال، عندما يقال انقلاب، فالمقصود به في اللغة العثمانية، ولاحقاً التركية، هو الثورة. وعندما يقال احتلال، يقصد به الانقلاب.
ومع الاتهامات الموجّهة إلى أتاتورك خارجياً في ما يتعلق بالسلطنة والخلافة والأحرف، فقد استمرت حملة العداء الداخلي له ولعلمانيته التي تعرضت لانتكاسات متتالية، إلى أن دخلت البلاد تحت حكم حزب العدالة والتنمية نهاية العام 2002. وكان هذا الحكم بداية العودة إلى أحاديث الصراع بين العلمانية والدين، وخصوصاً بعد ما يُسمى بـ”الربيع العربي”.
تحمس الرئيس إردوغان لهذا الربيع، وتوقع أن يساعده لإحياء ذكريات السلطنة والخلافة “الإسلامية التركية”، فأعلن الإسلاميون العرب بيعتهم له كزعيم سياسي وروحي سينقذهم مما هم عليه، بعد أن تخلى عنهم آل سعود “العرب”، فوجدوا ضالتهم في التركي إردوغان، فأراد بدوره أن يستفيد من هؤلاء الإسلاميين، سواء المسالمون منهم أو المسلحون، وكان يعتقد أنهم سيساعدونه على تطبيق برنامجه السياسي والعقائدي، فقد استنفر كل إمكانياته بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية في آب/أغسطس 2024، فقام بتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، وسيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها، وأهمها الجيش والأمن والمخابرات والقضاء والتعليم، وأراد لها جميعاً أن تساعده على أسلمة الدولة والأمة التركية، ليقول للإسلاميين في الخارج: “انظروا، إن بلادي دولة إسلامية، وريثة الخلافة والسلطنة العثمانية”، من دون أن يهمل الظهور بين الحين والآخر على شاشات التلفزيون وهو يتلو آيات من القرآن الكريم.
وجاء الرد من الشعب التركي سريعاً، إذ ألحقت أحزاب المعارضة بإردوغان هزيمة كبيرة في الانتخابات البلدية العام الماضي، عندما خسر مرشحو العدالة والتنمية في أهم الولايات الرئيسية، ومنها إسطنبول، وهي الحاضنة الشعبية والنفسية لإردوغان، الذي انتخب رئيساً لبلديتها في العام 1994، وعاصمة الخلافة والسلطنة التي يتغنى بها، كما أنه يسعى للتخلص من إرث أتاتورك وعاصمته العلمانية أنقرة، التي فاز فيها أيضاً مرشح المعارضة.
ومع تراجع الحديث أو الصراع العقائدي والفلسفي بين العلمانيين والإسلاميين، بسبب الحالات الدموية بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وخصوصاً مجازر داعش وجبهة النصرة وأمثالهما، يبحث الكثيرون عن تفسير ديني مقبول للخلاف والعداء والصراع بين إردوغان وآل سعود، وهم جميعاً مسلمون متدينون وسنّة، حالهم حال الإمارات ومصر، اللتين تتصديان لإردوغان في ليبيا والصومال ودول أخرى، بعد أن أعلنتا الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، وباسم الدين ومذهبه السني.
ويبقى الحديث عن “الصراع بين العلمانيين والإسلاميين من دون أي معنى” مع استمرار العداء والحرب بين الإسلاميين أنفسهم، من دول إلى جماعات، ثم أشخاص، وبغياب أتاتورك، بل حتى الماركسية، التي قالت إن “الدين أفيون الشعوب”، وإذ بأصحاب الدين يقتلون بعضهم بعضاً بالأفيون الرأسمالي الإمبريالي الأميركي المطعم صهيونياً، وتُغرس فيهم كل الخصائص السيئة، وعنوانها الرئيسي الفساد الذي حرمه الإسلام بأشكاله كافة !
الميادين
Views: 3