لم تكن العقوبات الأميريكية خلال السنوات غاية بحدّ ذاتها إنما وسيلة للوصول إلى أهداف معينة. فمهمّة العقوبات الإقتصادية أضحت ل”ترويض” الدول التي لا تُطيع سياسات الولايات المتحدة. ولعلّ أكثر من يثبت ذلك بأدّلة ملموسة “جون بيركنز” بكتابه الذي نشر سنة 2004 تحت عنوان “الاغتيال الإقتصادي للأمم”. تحدّث فيه عن ماهية وظيفته الأساسية و تشجيعه زعماء العالم على الوقوع في شرك قروض تؤمن ولاءهم، ما يمكّن الولايات المتحدة ابتزازهم متى شاءت ، لتأمين حاجاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مقابل أوضاعهم السياسية” .
سنأخذ مثال عمّا رواه الملقّب ب” القاتل الإقتصادي” من خلال مذكراته حيث لخّص فيه الأسلوب الذي إنتهجته الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على دول العالم الثالث . إقتصرت مهمته على غايتين أساسيتين هما : تبرير القروض الدولية الضخمة التي سوف تعيد الأموال إلى الشركات الكبرى، وثانياً العمل على إفلاس الدول التي تتلقى هذه القروض، بحيث تغدو أهدافاً سهلة حين يطلب منها خدمة ما، مثل إقامة قواعد عسكرية أو التصويت لصالح بلاده في الأمم المتحدة أو الحصول على النفط.. الخ. لقد إعترف “جون بيركينز” بأن العراق لم يكن مهماً لواشنطن فقط من أجل النفط بل أتت أهميته من مياهه وموقعه الاستراتيجي. لكن صدام حسين لم يخضع “للقتلة الاقتصاديين”، الأمر الذي أدى الى إحباط وإحراج كبيرين لإدارة بوش، فإختلقت قضية أسلحة الدمار الشامل وتلك المسرحية الهزلية التي قام بها كولن باول في مجلس الأمن، وقاموا بغزو العراق وتدميره . وأيضاً الحظر النفطي الذي فرضته السعودية عام 1973 كان له آثار سلبية خطيرة على السياسة والاقتصاد الأميركي . ما نتج عن هذا الحظر موقف مهم وتغييرات في السياسات في إخضاع المملكة للإرادة الأميريكية
ولكن ما هو الرابط بين رواية “بيركنز” بالأمس والعقوبات الأميريكية على سوريا اليوم ؟
تتعرّض سوريا اليوم من خلال ” قانون قيصر” للإبتزاز عبر العقوبات التي دخلت حيّز التنفيذ بهدف إخضاعها لسياسات الولايات المتحدة الأميريكية الإقتصادية والعسكرية تحت ذريعة ” حماية المدنيين” . وإذا أخذنا الغايتين الأساسيتين المستقاة من ” القاتل الإقتصادي” أي “بيركنز” تتضّح لنا الأهداف التالية:
1- بهدف إعادة الإعمار، كان المطلوب من الدولة السورية الإقتراض من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (الخاضع لهيمنة الولايات المتحدة الأميريكية والتي تمتلك فيه 30% من التمويل الخاص عن طريق حقوقها بالتصويت) إخضاعها من خلال تبرير القروض الضخمة التي سوف تعيد الأموال إلى الشركات الأميريكية الكبرى، والعمل على إفلاس الدولة السورية التي تتلقى هذه القروض، بحيث تغدو أهدافاً سهلة حين يطلب منها خدمة ما.
2- إستعادة السيطرة الأميريكية على منطقة الشرق الأوسط، والهيمنة الإقتصادية والسياسية التي انحسرت في ظلّ التصاعد الروسي – الإيراني والصيني والقضاء نهائياً على محور الممانعة المتمثل بحركة حماس وحزب الله وتقويض إيران بشكل كليّ لفرض صفقة القرن وإبرام إتفاقية سلام مع إسرائيل.
فهل سينجح مخطط “قانون قيصر” في ظلّ ما يجري في الولايات المتحدة الأميريكية؟
لا شك بأن جائحة كورونا كشفت هشاشة الاقتصاد الأميريكي وما تعرضت له أسواقها التجارية من ركود. وبحسب الخبيرة الاقتصادية إيريكا غروشين، الرئيسة السابقة لمكتب إحصائيات العمل التابع للحكومة، تعتبر بأن “وضع الاقتصاد الاميريكي في ’غيبوبة مستحثة طبيا وهي سابقة تاريخية” فيما أبرزت صحيفة “الغارديان” البريطانية فقدان أكثر من 20 مليون شخص في الولايات المتحدة وظائفهم في نيسان 2020 فضلاً عن ارتفاع معدل البطالة إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ، حيث أدى وباء فيروس كورونا إلى إغلاق أكبر اقتصاد في العالم ، مما تسبب في أزمة مالية لم تشهدها الولايات المتحدة منذ الكساد الكبير. وتوقّع وزير الخارجية الأميريكي السابق “هنري كيسينجر” احتمال استمرار الفوضى السياسية والاقتصادية الناجمة عن وباء الفيروس التاجي لأجيال، معتبراً بأن نظاماً عالمياً جديداً سيولد قريباً . بالإضافة إلى ما يحصل حالياً من تصاعد للمظاهرات في الولايات المتحدة الأميريكية والتخريب وزعزعة الوضع الداخلي بعد مقتل جورج لويد ما ينبىء بالسوء .
إذاً، في ظلّ ما تعانيه الولايات المتحدة الأميريكية من إقتصاد هشّ في بنيويتها بحسب الخبراء الإقتصاديين، نرجّح بأنه أصبح من المستحيل إستمرار واشنطن في النهج السابق وفي سياساتها الخارجية السابقة. ولا شكّ بأن الصراع الحاصل بين ترامب والدولة العميقة ستظهر نتائجه خلال فترة زمنية قريبة والفائز هو من سيحدّد موقع الولايات المتحدة دولياً كما يعتقد الخبير الروسي “كاتاسونوف” . و سيبقى الترقب والإنتظار و ما ستؤول إليه الأوضاع الأميريكية الداخلية سيد الموقف و البناء عليه في المستقبل القريب. وكما قال كيسنجر بمفهومه للسياسة الخارجية ” عندما تنتهي السياسة الداخلية، عندها تبدأ السياسة الخارجية”. أما مصير “قانون قيصر” فسيصبح كمن طابخ السم…شاربه
الكاتب
رانيا حتي باحثة في الشؤون الاستراتيجية لبنان
Visits: 0