في رحاب أحد بساتين غوطة دمشق تنطلق هذه الأيام رحلة إنتاج قمر الدين الذي تتفرد بإنتاجه مدينة دمشق وريفها منذ مئات السنين فبعد أن تتزين الغوطة بثمار المشمش تبدأ المعامل بالتنافس لشراء أكبر قدر من هذه الثمار الفريدة لصناعة قمر الدين الشامي العريق الذي أهدته سورية للعالم.
منذ ساعات الصباح الأولى تعانق أيادي العمال ثمار المشمش لقطافها وهي المرحلة الأولى لإنتاج مادة قمر الدين وفق محمد بشار جاويش مالك المنشأة والبستان الذي زارته سانا مشيراً إلى أن تأمين الثمار من الفلاحين يعتبر المرحلة الحاسمة في الإنتاج لأن موسم القطاف لا يتعدى الخمسة والأربعين يوماً وإنتاج قمر الدين يتطلب النوعية الأفضل من ثمار المشمش المسمى بـ “المشمش الكلابي” فهو يصلح لصنع العصير والمربى لاحتوائه على كمية عصير جيدة.
بقبعتها الدائرية ولفحتها زاهية الألوان تنتظر فاطمة أم محمد رئيسة العمال وصول الصناديق وتوريدها إلى الآلات حيث تبدأ مهمتها بالإشراف على فرز الثمار وغسلها آليا بالماء وضخ الهواء وتعقيمها بمادة زهر الكبريت ثم وضعها بماكينة العصير المصنوعة من الكروم ليبدأ العمل على مرحلتين الأولى فصل الثمرة عن البذرة ومن ثم فصل القشور والألياف عن العصير لاستخلاص المادة المطلوبة ليتم وضعها في حوض خاص تخلط به مع مادة القطر الصناعي “جلوكوز” حتى تصبح لينة ومتجانسة وهي عملية مهمة للغاية برأي فاطمة لأن عدم وضع القطر يجعل المادة المنتجة قاسية وذات لون باهت.
العمل في الطبيعة وفي بستان تفوح منه رائحة المشمش له طقس خاص وفق العاملة أسماء حيث تختلط الهمسات والضحكات الخجولة للعاملات مع صوت الآلات التي تقوم بالمرحلة الثانية من عملية التنعيم والتصفية بمناخل آلية ناعمة جداً لتوضع في النهاية بحوض خاص لتنتقل إلى العملية التالية وهي التذويب بالحراق.
بعد التذويب ترحل المادة المنتجة بالعربات حيث يصب اثنان كيلو من قمر الدين على كل دف ومن ثم تنقل هذه الدفوف وترتب على مساحات كبيرة تسمى “المسطاح” تصل إلى سبعة أو ثمانية دونمات وتوضع بالشمس لمدة خمسة أيام بلياليها لتجف تماماً وتصبح بقوام قمر الدين فتغلف بنايلون استعداداً لنقلها إلى المستودعات.
يتخلل العمل استراحة الشاي التي تعتبر جزءاً أساسياً منه فيجتمع العمال تحت مظلة كبيرة موجهين انظارهم إلى اللوحة الفنية التي تتقابل فيها دفوف قمر الدين البرتقالية المصفوفة على مد النظر مع لون السماء الأزرق محاطة بمساحات خضراء شاسعة ولا ينتهي عمل اليوم الذي بدأ منذ الخامسة فجراً إلا بالمرحلة الأخيرة وهي نقل قمر الدين الجاهز إلى المستودعات ليتم تبريده فيها لعدة أيام ومن ثم تقطيعه حسب طلب الزبون حيث يفرد الدف وينقى للمرة الأخيرة ويمسح بالزيت ليصبح قمر الدين صافياً مئة بالمئة ويغلف بالنايلون وتوضع علامة المنتج وتاريخ إنتاجه وبذلك يكون جاهزاً للتوريد للسوق المحلية أو للتصدير.
صاحب المنشأة محمد بشار جاويش أشار إلى أن البذور التي تنتج عن عملية التصنيع تجفف لمدة 5 أيام وتذهب للمكاسر التي تفصل القشرة عن اللب وتصدر للخارج لإنتاج الزيوت والكريمات وبعض أنواع الأدوية أما الألياف فتذهب كمادة علفية.
ووفق جاويش فإن كل الأدوات المستخدمة مصنوعة من الكروم الذي لا يتفاعل مع المواد الغذائية والمنتجات ولا يتآكل بالحمض مبيناً أن مادة القطر التي تخلط مع قمر الدين كانت تنتج محلياً وتصدر للخارج أما اليوم فهي تستورد بفعل توقف المعملين اللذين كانا ينتجانها.
ويشير جاويش إلى أن ترطيب الجوف وتليين الأمعاء واحتواءه على مجموعة من العناصر الغذائية كالبوتاسيوم وفيتامين (أ) هي أحد أهم الميزات الطبيعية التي تختص بها مادة قمر الدين مبيناً أنه يستخدم ببعض العلاجات الطبية كمرض الريقان فيما يكثر الطلب على المنتج في شهر رمضان المبارك.
وعلى الرغم من أن بعض السوريين نقلوا هذه الصناعة العريقة التي كانت سورية تتفرد بها للخارج إلا أنها لم تكن بالجودة المعروفة نفسها عن قمر الدين السوري وذلك يعود وفق جاويش لعدة أسباب أهمها نوع الثمرة الفريد من المشمش الذي تنتجه الغوطة والمسمى بـ “الكلابي” والمناخ الذي تمتاز به منطقة ريف دمشق إضافة إلى اليد الخبيرة التي تصنعه مشيراً إلى أن طبيعة المناخ لتلك الدول أجبرت المنتجين على استخدام التجفيف الصناعي بالآلات ما أفقد المادة مذاقها ولونها والكثير من فوائدها الغذائية.
ووفق جاويش تطورت صناعة هذه المادة في سورية عبر الزمن حيث استخدم في البدايات الغربال العادي والتنعيم اليدوي والحراق الخشبي وكانت تصنع بكميات قليلة لا تتعدى المئة طن في الموسم الواحد بينما تقوم اليوم عدة معامل بصناعة عشرات الأطنان منه باستخدام الآلات الحديثة إلا أنها لا تزال تجفف بشكل طبيعي عبر التعرض لأشعة الشمس لتحافظ على جودتها كما أن إضافة مادة القطر إليها هي عملية حديثة نسبياً تسهم في الحفاظ على لونها البراق وإضافة نكهة مميزة لها.
Views: 9