ليست الازمة المالية والمصرفية التي تهز البلاد هي الاولى من نوعها في لبنان والعالم، إذ سبق لدول عدة أن عانت من أزمات مشابهة. وإذا كان اللبنانيون يتفهمون وضع بعض القيود على أموالهم، أو حدود لسحوباتهم النقدية كما حصل في اليونان والأرجنتين وقبرص وغيرها من الدول، لكن أن تسطو الحكومة على جزء من أموالهم المودعة في المصارف إذا لم نقل كلها، فهذا يعد اعداما للثقة في القطاع المصرفي بالكامل. في الواقع، هذا ما يحصل حاليا، إذ توسعت الهوة بين المودعين وبين هذا القطاع الحساس الذي لطالما كان مصدر ثقتهم والحارس الأمين لمدخراتهم وأموالهم وجنى عمرهم.
غالبية اللبنانيين تضع اللوم على المصارف والسلطات النقدية كونها استثمرت القسم الأكبر من موجوداتها بالعملات الأجنبية في القطاع العام، أي بشكل إيداعات في مصرف لبنان وتوظيفات في سندات الدولة اللبنانية (الأوروبوندز). يضاف إلى ذلك تسليفات للقطاع الخاص وإيداعات في المصارف الخارجية تسهيلا للتجارة الخارجية. ولا ننسى الكلفة العالية لتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، وهي السياسة التي تبنتها كل الحكومات منذ سنة 1992، والتي اقتضت رفع الفوائد لاستقطاب الدولار بغية استعماله في دعم الليرة (ما يُعرف بالهندسات المالية). فتراجعت سيولة المصارف العاملة في لبنان بالدولار، إذ استقطب مصرف لبنان معظم السيولة بالعملات الأجنبية. وقد أعقبت ذلك زيادة الطلب على العملات الأجنبية بعد التحركات الشعبية في 17 تشرين الأول، بما تجاوز قدرة المصارف اللبنانية على تلبيتها.
كما أنه عندما اشتد الطلب على العملات الأجنبية في أجواء فقدان الثقة بالإدارة السياسية والمالية في لبنان، وما استتبع ذلك من خروج للرساميل من البلاد، اضطر مصرف لبنان إلى الاستعانة بودائع المصارف بالعملات الأجنبية لديه، خصوصا أنه كان بحاجة متزايدة لتلبية الطلب على العملات الأجنبية، والاستمرار في الدفاع عن سعر صرف الليرة، وتمويل العجز الكبير في الميزان التجاري وتسديد مستحقات “الأوروبوندز” عند الاقتضاء، إضافة إلى متوجبات أخرى بالعملات الاجنبية. ولكن السؤال: هل من أمل في ان يستعيد المودعون دولاراتهم المودعة في المصارف؟ هل المصارف اللبنانية حرة في توظيف ودائع زبائنها كما تشاء؟ تؤكد مصادر مصرفية أن إعادة الودائع، لاسيما الودائع بالدولار، إلى زبائن المصارف مرهونة بتسديد القطاع العام ديونه للقطاع المصرفي. لكن المشكلة أن سياسة الدولة تسير باتجاه معاكس، فهي تتجه إلى شطب ديونها والتنصل من التزاماتها لمصرف لبنان والمصارف، مما ينعكس حكماً على أموال المودعين. وأكدت أن ثمة قيودا صارمة ومتعددة تحد من حرية المصارف في توظيف الأموال المؤتمنة عليها. هذه القيود منصوص عليها في قانون النقد والتسليف وفي تعاميم مصرف لبنان وتعليمات لجنة الرقابة على المصارف. على سبيل المثال لا الحصر، لا يحق للمصارف أن تزاول تجارة أو صناعة أو نشاطا غريبا عن المهنة المصرفية، ولا أن تساهم في مؤسّسات صناعية أو تجارية أو زراعية إلا ضمن السقوف التي سمح بها القانون، كما لا يسمح لها بالإستثمار في العقارات، وهي ملزمة أيضا احترام الحدود والشروط القانونية للاعتمادات التي تمنحها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأعضاء مجلس إدارتها أو القائمين على إدارتها وكبار المساهمين فيها، ولأفراد أسر هؤلاء جميعا.
وتوزعت تسليفات المصارف وتوظيفاتها في نهاية عام 2019 كنسبة مئوية من الموجودات كالآتي: 23% تسليفات للقطاع الخاص المقيم، 13% تسليفات للقطاع العام، 54% إيداعات لدى مصرف لبنان، 3% إيداعات لدى المصارف المراسلة في الخارج. يلاحَظ من هذه النسب أن التمويل المصرفي يتركز على القطاع العام بدلا من القطاع الخاص، علما أن المصارف تعرف أن وظيفتها ذات الأولوية هي تمويل القطاع الخاص للمساعدة على توليد النمو الاقتصادي وتوفير الوظائف. إلا أن ظروف الاقتصاد اللبناني، لا سيما في الاعوام العشرة الأخيرة، هي التي فرضت اتجاهات التسليف المصرفي. فقبل التطورات النقدية الأخيرة وهبوط سعر صرف الليرة، بلغت تسليفات المصارف للقطاع الخاص نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة مرتفعة بالمعايير العالمية. ولكن المشكلة الأساسية تكمن في أن النموّ الاقتصادي كان متواضعا ولم يكبر حجم الاقتصاد بنسبة كافية. وهنا مسؤولية السلطات الدستورية والقوى السياسية المعنية التي لم تقم بوضع الخطط المطلوبة وتأمين الاستقرار السياسي المطلوب لتأمين النمو الاقتصادي. مع الاشارة الى ان جمعية المصارف حذرت من عدم قدرتها ورغبتها في مواصلة تمويل القطاع العام إذا لم تقم الحكومات بالإجراءات والإصلاحات المطلوبة منها، وكان جواب أركان الطبقة السياسية هو الادعاء على الدكتور فرنسوا باسيل رئيس الجمعية في حينه، كونه تجرأ وطرح هذه الأمور بوضوح.
وكان ممكنا تغذية القطاع الخاص بمزيد من التسليفات نظرا الى السيولة المصرفية العالية في لبنان، فموجودات القطاع المصرفي بلغت 4 أضعاف الناتج المحلّي وودائعه 3 أضعاف الناتج. لكن القطاع الخاص لم يكن قادرا على استيعاب المزيد من التمويل بسبب الجمود الاقتصادي المتمادي وهبوط معدل النمو بشكل متدرج من 8% سنة 2010 إلى صفر% في العام الماضي، مع ترجيح انكماش سنة 2020.
غير أن جوهر المشكلة لا يتعلق بسياسة المصارف التسليفية بل في المعدلات المتدنية للنمو الاقتصادي والحجم الصغير للاقتصاد، إذ وفق المصادر عينها “تقاعست الحكومات المتتالية عن وضع الخطط المناسبة لتحفيز قطاعات الإنتاج وزيادة النمو. والمشكلة ليست في الحجم الكبير للقطاع المصرفي، كما يروَّج، وبدل السعي إلى تقليص حجم القطاع المصرفي من الأجدى السعي إلى تكبير حجم الاقتصاد اللبناني”. وتاليا تؤكد المصادر عينها ان المصارف، بحكم مسؤوليتها عن أموال المودعين وسلامة أوضاعها المالية الذاتية، لم تكن قادرة على رفد القطاع الخاص بمزيد من التسليفات في هذه الظروف تلافيا لحمل محافظ تسليفية رديئة وديون مشكوك في تحصيلها. وتزامن ذلك مع قابلية القطاع العام الكبيرة لتلقي التمويل بسبب تراكم عجز الموازنة وعدم قدرة الدولة، من دون دعم المصارف، على دفع رواتب العسكريين والقضاة والمعلمين وسائر الموظفين، ناهيك بتسديد فوائد الدين العام. كما تزامن ذلك مع وعود متكررة من السلطات الدستورية والسياسية المعنية بالإصلاح السياسي والمالي والإقتصادي من التسوية السياسية إلى موضوع الكهرباء ومشكلة القطاع العام، والتهرب الضريبي والجمركي، إلى إنتاجية الاقتصاد اللبناني… إلا أن أياً من ذلك لم يتحقق.
ولأن تسليف الحكومات والتوظيف في المصرف المركزي يعتبران، عموما، أكثر أشكال التوظيف أمانا والأقل خطرا، ركزت المصارف على هذا النوع من التوظيف، بعدما تشبع القطاع الخاص ولم يعد يستوعب مزيدا من التسليفات. يضاف إلى ذلك أن الحكومات التي شكلت بعد الاتفاق الرئاسي وعدت مرارا بتحقيق الإصلاحات والتزمت بذلك داخليا ودوليا، وكانت تمارس في الوقت عينه ضغوطا على المصارف للاستمرار بتسليف القطاع العام.
إلا أن هذه المبررات لا تعني عدم وضع اللوم على المصارف ومغامرتها بتمويل الدولة بهذه السقوف. وتؤكد المصادر أنه “في البداية لم يكن تمويل الدولة مغامرة، لأن تسليف الدولة من حيث المبدأ ينظر إليه عالميا بأنه خال من المخاطر، على عكس تسليف القطاع الخاص. من جهة أخرى، فإن كل الحكومات اللبنانية منذ عشرين عاما كانت تعد بالإصلاح المالي والخفض التدريجي لعجز الموازنة وتسجيل فائض أولي، بهدف تراجع الدين العام كنسبة مئوية من الناتج المحلي. وتكررت هذه الوعود في البيانات الوزارية لكل الحكومات، وفي خطابات الموازنة، وفي الأوراق التي قدمت إلى المؤتمرات الدولية المتعددة لدعم لبنان. ولكن عندما نكثت الدولة بوعود الإصلاح تبيّن أن إقراض الدولة، الذي كان يُفترض أنه من دون مخاطر، أصبح توظيفا مولّدا للمخاطر والخسائر”.
Views: 0