الاقتراع الروسي لصالح التعديلات الدستورية الأخيرة في دولتهم تختزن إصراراً شعبياً كبيراً على عودة بلادهم إلى التعددية القطبية!
هذا هو المضمون الفعلي لتأييدها من 78% من المواطنين الروس مقابل اعتراض 21% على تعديلات دستورية تُحدث تطويراً في القيم والمؤسسات، وشارك فيها 65% من مجمل شعوب روسيا، هذا رقم كبير في عالم الديمقراطيات الغربية لا تجب مقارنته أبداً بالاستفتاءات العربية التي تعطي رئيس البلاد 99% فقط! وتصل المخابرات ليلها بالنهار بحثاً عن 0.1% تغيّب عن الانتخابات شديدة الشكلية. أما السؤال القابل للمعالجة، فيتعلق بكيفية الربط بين هذه التعديلات ومكانة روسيا العالمية، علماً أنها لا تتطرق إلى هذا الأمر بشكل علني. أولاً تجب الإشارة إلى أن هذه التعديلات لها جانب كبير يتعلق بتعميم القيم الوطنية والولاء للمؤسسات وحقوق المواطن وأدواره في الدفاع عن بلاده سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وصولاً إلى الدفاع الوطني. لكن جانبها «الكوني» يرتدي لبوس تعديلات دستورية تسمح للرئيس الروسي البقاء في ولايتين رئاسيتين متتاليتين ابتداء من تاريخ إقرار هذه التعديلات. وهذا يؤدي إلى «تصفير» العداد الرئاسي السابق وإعادة فتحه بموجب هذه التعديلات الجديدة على ولايتين رئاسيتين مدتهما اثنتي عشرة سنة.
وبما أن ولاية الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين تنتهي في 2024 أي بعد عشرين سنة من تنقله بين مجلس رئاسة الوزراء في بلاده، ورئاسة الجمهورية، فيكون بوتين مرشحاً لحكم روسيا 32 سنة متواصلة تشبه حكم القياصرة شكلاً والسوفياتية لناحية المضمون الاستراتيجي الذي يريد انتزاع دور عالمي يماثل الشكل السوفياتي إنما بمضمون معاصر يقترب من العالم الغربي.
من الواضح إذاً أن هذه التعديلات تخدم مباشرة التمديد لبوتين بآليات انتخابيّة ميزتها أنها قابلة للتجديد والتمديد.
فلماذا يريد الشعب الروسي بتنوعاته القومية والعرقية فتح الطريق أمام مَن يعتقدون أنه «بطل روسيا»؟
يقول التحليل التاريخي إن انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 عكس التراجع الروسي المخيف بدءاً من الثمانينيات لانخراط الاتحاد السوفياتي في حروب تسلح وفضاء ودعم لمدى جيوبوليتيكي واسع.. منفرداً.. مما أدى إلى سقوط هذه الظاهرة الجيوبولتيكية الهامة التي أدت دوراً محترماً في عرقلة الهيمنة الأميركية على العالم منذ الخمسينيات وحتى أواخر الثمانينيات من القرن العشرين إنما بشكل نسبيّ طبعاً.
لكن روسيا وريثة السوفيات، استسلمت بين 1990 تاريخ إعادة تأسيسها وحتى مطلع القرن العشرين للهيمنة الأميركية وصولاً إلى حدود التبعية الكاملة لها، وهي المرحلة التي تسلم الرئاسة فيها بوريس يلتسن الذي قضى عهوده الرئاسية معاقراً للفودكا إلى حدود السكر والاغتراب عن هموم بلاده، حتى أصبحت روسيا في عداد الدولة المعدومة التأثير ومتراجعة اقتصادياً على مستوى الداخل ولا يهمها تلك التغيرات الجيوسياسية التي اتخذها الأميركيون لتطويقها في أوروبا شرقية كانت متحالفة معها، وإبعادها نهائياً عن الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ورفع مستوى تناقضاتها مع أوروبا.
هذا ما تسلّمه بوتين في 2004 في رئاسة الوزراء ورئاسة البلاد، إلا أنه لم يقبل بهذه الوضعية الروسية المتقهقرة، فبنى خطة بدأت بتمهيد وضعية سياسية موالية لفكرة استنهاض روسي بمدى جيوبولتيكي، وهذا دعاه للتوطيد السياسي وإعادة دعم الممكن من الاقتصاد المنهار خارجياً. اعتبر يلتسن أن تحصين الحدود الروسية مع أوكرانيا «المتأمركة» وأوسينيا وبعض المناطق الأخرى بانياً شبكة أمان في جواره الإقليمي، لكنه سرعان ما أعاد الحيوية إلى علاقات بلاده بالصين على أساس اقتصادي بين البلدين وجيوبولتيكي خارجي للتعامل مع الحذر مع الهيمنة الأميركية.
للمزيد من التأمين الاقتصادي اخترق بوتين الحظر الأميركي على دور روسي في أوروبا، فأسس لمرور أكبر ثلاثة خطوط لأنابيب الغاز الروسي: واحد إلى ألمانيا مباشرةً عبر بحر البلطيق وآخر إلى أوكرانيا فأوروبا وثالث عبر البحر الأسود إلى تركيا فأوروبا أيضاً، مؤكداً بذلك على الدور المركزي الجيوسياسي للغاز الروسي في العالم، وهذا اختراق كبير للجيوبولتيك الأميركي الذي كان يعمل على تطويق روسيا اقتصادياً واستراتيجياً لمنعها حتى من مجرد التفكير والحلم بالقطبية العالمية.
لم يكتف بوتين بهذه الإنجازات بعد تأكده من عجزها عن استرداد الدور العالمي لبلاده.
هنا نراه أعاد تجديد دور قاعدة حميميم الروسية المنصوبة على الساحل السوري منذ زمن السوفيات.
لذلك كان الغبار يعتريها وتكاد تجسد ذكريات سابقة عن جيوبولتيك سوفياتي منهار. هنا نجح بوتين باتفاقات تمهيديّة مع إيران وحزب الله من تحويل حميميم إلى دور روسي عسكري وسياسي كبير بالتعاون العميق مع الدولة السورية. لقد بدت الحركة العسكرية الروسية في سورية واسعة النطاق وحاربت إلى جانب الجيش السوري وحلفائه على كامل الأرض السورية حتى أنّها نفذت مئة وعشرين ألف غارة جوية في مختلف المناطق من دون احتساب القصف المدفعي والصاروخي والعمليات البرية. لقد ظهرت مرامي بوتين من خلال إمساكه بآليّة أستانة وسوتشي مع الأتراك والإيرانيين وبمهادنته السعودية لأسباب تتعلق بضرورات التنسيق في أسواق النفط. فاتحاً علاقات مع العراق والجزائر ومصر محاولاً البحث عن عناصر للعودة إلى اليمن من بوابة العثور على اتفاق بين أجنحته المتقاتلة، مقدماً للبنان عروضاً في الاقتصاد والتسلّح وحاملاً معه إلى ليبيا ذكريات سوفياتية كانت على علاقات جيدة مع القذافي.
يتضح بذلك أن بوتين الممهّد لأدواره المتواصلة في رئاسة روسيا حتى العالم 2036 يتمتع بتأييد شعبي قوي، يؤهله لأداء دور قيصر أو حاكم سوفياتي بصلاحيات إمبراطورية، يريد العودة إلى الشرق الأوسط لأهداف تتعلق بحرصه على العودة إلى النظام القطبي المتعدد، بما يؤهله لتنظيم علاقات اقتصادية مع العرب والمسلمين وتوريد أسلحة لبلدان الشرق الأوسط والمساهمة في التنافس على الغاز في البحر الأبيض المتوسط، بذلك يجد الأميركيون أنفسهم مضطرين لتسهيل ولادة نظام قطبي جديد، يجسد فيه بوتين الروسي دور النجومية لأهمية بلاده من جهة وإمكاناته الشخصية المنسقة مع أدائه في المرحلة السوفياتية دور ضابط مخابرات ناجح.
البناء
Views: 6