التدقيق الجنائي أو التشريحي “forensic audit”، الذي بدأ كواحد من ثلاثة أمور أساسية لإعادة هيكلة مصرف لبنان، دُفن في مهده. الكل اشتمّ به رائحة “كافر”، فطردوه. العنوان الرنان لهذا النوع من التدقيق، يخفي في مضمونه مطلباً بالشفافية، لطالما جرى رفضه، وتحديداً من بعد تشرين الاول العام الماضي.
يختص التدقيق الجنائي بتقييم السجلات المالية لمصرف لبنان ومراجعة جميع المعاملات. وبالتالي استخلاص الأدلة التي يمكن استخدامها في المحاسبة، ووضعها في يد الجهة المطالبة بالتدقيق، أي الحكومة.
هناك خلط كبير في ما اذا كان هذا التدقيق سيدين المركزي على الهندسات المالية التي اجراها والتي هي فعلياً سبب الخسارة المحققة، أم على غضّه النظر عن “تهريب” الاموال من بعد تشرين الاول العام 2019. أم على أساس تهم فساد ودفع ورشاوى. أم على التورط في عمليات تبييض الاموال. أم في الاثراء غير المشروع ووجود حسابات لموظفين ومسؤولين في الدولة. أم في تزوير تقارير محاسبية…
“في الواقع كل هذا يكشفه التحقيق”، يقول خبير في المحاسبة والتدقيق فضّل عدم الكشف عن اسمه. وبحسب الخبير فإن “الفرق بين التدقيق الجنائي والعادي، ان الاخير يقوم على اختيار العينات على ضوء اطلاعه على الميزانيات والبيانات المالية. وبقدر ما تظهره العينات من أمور غير مألوفة يتعمق أكثر في التدقيق. في حين ان التحقيق الجنائي هو تدقيق شامل وكامل لكافة القيود لاظهار وقائع وحقائق معينة، تتطلب الدخول على كافة الحسابات وقيودها والمستندات الثبوتية التي تعود لها وتفرعاتها والعودة الى أصلها. حتى يصل في النتيجة الى اظهار الحقيقة الكاملة.
في النتيجة ان التحقيق الجنائي لا يصدر عنه قرار ظني بل يشمل وقائع تظهر كل ما يحتاجه القضاء لاصدار القرار الظني، وملاحقة المخلين.
في الوقت الذي يصور فيه التدقيق الجنائي على انه سابقة تحصل لاول مرة في مصرف لبنان، تظهر الوقائع وجود 3 شركات دولية معروفة بعراقتها وخبرتها تقوم بالتدقيق العادي في ميزانيات وحسابات مصرف لبنان بشكل دوري. وبالتالي فإن التدقيق الجنائي الذي من المفروض ان يعطي إما نتيجة سلبية وإما ايجابية عن واقع المركزي مطلوب ليرفع الغبن عن الشخص الفردي او المعنوي الموجهة اليه التهم.
فهل الرفض مرده إلى حماية مصالح فردية ضيقة وأشخاص متورطين ام إلى سياسة عامة معينة تطبق في البلد؟
“الأكيد ان هذا النوع من التحقيق سيلحق الضرر بكثير من الاشخاص”، يقول رئيس مجلس ادارة FFA private Bank جان رياشي. و”بالتالي فان رفضه أمر بديهي”. فهذا التحقيق لا يكتفي باظهار مستندات وقيود العمليات المحاسبية بل يتعمق اكثر بملاحقة العمليات وإظهار أسبابها الحقيقية. خصوصاً ان كان سيمتد إلى كل قطاعات الدولة من مؤسسات عامة وصناديق ومجالس. وهذا ما يدفع، برأي رياشي، “الكثير من الجهات إلى الاعتراض عليه ورفضه لانه قد يفضح أموراً كثيرة”.
الحكومة وفي اطار إعداد خطتها للتعافي أدرجت العديد من البنود بالاضافة الى التحقيق الجنائي. ومنها:
– الكشف عن الحسابات والحوالات المالية التي حدثت بعد 17 تشرين الاول، وإعادتها.
– إسترداد الفوائد المرتفعة التي اعطيت. وهو ما يوجب أولاً فتح كل الدفاتر، واظهار الثروات. وثانياً خصم ارباح الفوائد الباهظة منها. وفي كلتا الحالتين فان القرار مرفوض من الذين استفادوا، خصوصاً ان كانوا موظفين أو مسؤولين في القطاع العام.
– التدقيق في حسابات السياسيين والموظفين والمعنيين في الشأن العام والمقاولين.
– التدقيق الجنائي في مصرف لبنان والبحث اكثر في القروض المدعومة والهندسات المالية والجهات التي استفادت منها سواء كانوا افراداً أم مصارف ومؤسسات.
– التدقيق في المؤسسات العامة والصفقات العمومية. ليس فقط من حيث وجود نفقات مغطاة بفواتير، انما بملاحقة المشاريع ومقارنة الاسعار والتحقق من وجود هدر وفساد.
ببساطة فان هذه النقاط تعني “فتح أبواب جهنم”، يقول رياشي. ويضيف: “التحقيق الذي أشك ان يحصل، يفترض به أن يؤمن استرجاع الاموال سواء كانت من الفوائد او التحويلات أو الفساد أو السرقة او غيرها. وحتى لو كانت المبالغ ليست كبيرة لان معظم الخسائر ناتجة عن سوء ادارة، فان المحاسبة تعتبر عملية مبدئية. لكنها في المقابل تتطلب وجود منظومة بالحكم تستطيع المحاسبة. فهل اصحاب القرار سيقبلون بفتح ملفات قد يعود بعضها لهم؟؟”.
إذًا فإن العبرة تبقى في القدرة على الملاحقة ومحاسبة المتورطين في فضائح أو جرائم مالية من بعد صدور التقرير. وهذا ما يدفع المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن إلى القول ان “الفحطة” بهذا التدقيق تحولت إلى موضة تشبه فورة تناول الكايل أو كيناوا في الماضي القريب، بحجة تخفيض الوزن الزائد. فكل شي “فرنجي برنجي” وعبارة “forensic audit ” أصبح trend كبرت في الاعلام مثل كرة الثلج وكأنها تهدد بسحق كل ما يواجهها. في حين ان هذا التدقيق لا يختلف عن بقية انواع الـ auditing ولن يختلف إن أضفنا له كلمة جنائي”.
الخازن يعتبر ان هذا التدقيق الذي يُحكى انه سيطال اموال مصرف لبنان وحركة حساباته يجب ان يمتد، في حال حصل، ليشمل مجلس الانماء والاعمار وصناديق “التنفيعات السياسية والمناطقية” ومصادر الهدر كالكهرباء والسدود الخ…
التدقيق على اهميته سيصطدم بثلاثة أمور أساسية هي السرية المصرفية، تكاتف الطبقة السياسية على دفن اسرارها والبيروقراطية الادارية والقضائية في لبنان. خاصةً وان هذا التدقيق يقتضي وجود، في حال وصوله لأية نتيجة، قضاء مستقل يواكبه بهدف المحاسبة واستعادة الاموال المنهوبة (او غير صفة). اضافةً إلى وجود تشريعات ضرورية لتجريم بعض الاعمال المخالفة، كقانون الكابيتال كونترول.
فهل يمكن مثلاً ادانة الافراد المتورطين باخراج الاموال منذ تشرين الاول العام الماضي ولغاية اليوم، في حال لم يكن على الاموال شبهات؟ في ظل غياب قانون يمنع او ينظم تلك التحاويل؟ بالطبع لا، يجيب الخازن “فعملية اخراج المليارات التي قد تكون تعدت المليارين، اكثر من نصفها مبرر ونتيجة لالتزامات سابقة، قد توصف بغير العادلة لكنها تبقى قانونية في ظل عدم وجود قانون للكابيتال كونترول. ولن يستطيع لا التدقيق الجنائي ولا المحاكم الجنائية من بعده ادانة مثل هذه العمليات في حال غياب قوانين تمنعها”.
إلا ان الخوف من فتح هذه الملفات يعود برأي رياشي إلى امكانية كشفها المستور في حسابات تعود الى موظفين وثروات غير مبررة أو مصرح عنها.
العجب من رفض التدقيق التشريحي أو أي نوع من انواع التدقيق الجدي بطل عند معرفة السبب. وهو ما يدفع أيضاً الى رفض اقرار قانون للكابيتال كونترول إلى جانب التصدي بكل ما عندهم من قوة وتسلط ونفوذ للتدقيق في مصرف لبنان وخارجه.
Views: 5