يبدو أنَّ الجميع ومن بينهم الأميركيين بدأوا يتذمّرون من أسلوب إردوغان المشاكس لواشنطن وأوروبا وروسيا والخليجيين.
في متابعةٍ لمسار تدخل تركيا في مُجمَل الملفات الأكثر حساسية في المنطقة حالياً، نجد أنّها تتراجع في أغلبها، بعد أن كانت متقدّمة في بعضها. وبعد أن ظهر أنها تخطّط لملفات تدخُّلِها بطريقة مدروسة، تبيّن أنها لم تدرسها جيداً بما فيه الكفاية، وبأنها غفلت عن مسلمات استراتيجيَّة لم تشملها دراسات ما تضمَّنه كتاب “العمق الاستراتيجي” للكاتب التركي (الدبلوماسي السابق)، وأستاذ العلاقات الدولية، أحمد داوود أوغلو، والذي تناول فيه “سبل تأمين الأمن القومي التركي، وكيفية توظيف تركيا لموقعها الجغرافي وإرثها التاريخي، بهدف إخراج نفسها من دورها الهامشي أثناء الحرب الباردة، ونقلها إلى بلد محوري ومؤثر دولياً”.
هذه الملفّات التي تتراجع تركيا فيها مؤخراً، بعد أن كانت “طاحشة” وتمثّل رأس السهم فيها، يمكن تحديدها بالتالي:
الملفّ السوريّ
لن تستطيع تركيا الاستمرار إلى ما لا نهاية في موضوع التغاضي عما التزمت به سابقاً في اتفاقيات أستانة وسوتشي وموسكو حول الشمال السوري بشكل عام، وإدلب بشكل خاص، فالضغوط الروسية تتزايد عليها لإنهاء الملف، وخصوصاً أن موسكو أعلنت مؤخراً، وبصراحة، أنه لم تعد توجد إجراءات خاصة بالحكومة السورية لتنفيذها، بعد أن اختفت المجموعات المعتدلة التي كانت طرفاً في تلك الاتفاقيات بشكل كامل، ولم تبق إلا المجموعات الإرهابية التي لا يتبناها أحد ظاهرياً (في الخفاء، تركيا على الأقل تتبناها وتشغلها).
الملفّ الليبيّ
كان الدّور التركيّ مؤثراً جداً وفعالاً في التحولات الميدانية الأخيرة في ليبيا، والتي وضعت وحدات حكومة الوفاق المدعومة من أنقرة على خط سرت – الجفرة الاستراتيجي، بعد أن كانت تجهد غرباً بحوالى 300 كلم على الأقل للمحافطة على العاصمة طرابلس، وسوف يشهد هذا الملف، كما يبدو، وقريباً، تحولاً دراماتيكياً، ستكون بدايته بعد استقالة حصان أنقرة في ليبيا (فايز السراج)، وتشكيل منظومة سياسية واسعة بتوافق إقليمي ودولي (أوروبي وروسي وأميركي) شبه كامل، لإنتاج تسوية للملف وإعادة التوازن المالي والسياسي والعسكري إلى ليبيا، بمعزل عن التفرد التركي الذي كان يعمل إردوغان عبره، متجاوزاً أغلب الأطراف الخارجيين الفاعلين.
ملف شرق المتوسط
لا ضرورة لإعادة سرد تفاصيل التراجع التركي في هذا الملف. بعد أن كانت سفن التنقيب التركية تعمل في المياه الاقتصادية الخالصة لكل من اليونان وقبرص، بحماية الفرقاطات العثمانية، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار كل الاعتراضات، عادت إلى قواعدها سالمة، وعاد الرئيس إردوغان إلى مربع التفاوض مع الجميع، ومن موقع استعطاف الأطراف الدوليين لإعادة النظر في مندرجات قانون البحار، الّذي يعطي اليونان صلاحية التنقيب والإنتاج في مناطق بحريّة لا تبعد أكثر من 10 كلم عن السواحل الجنوبية التركية على المتوسط، استناداً إلى ملكية أثينا التاريخية لجزيرة “ميس” البعيدة عشرات الأمتار عن الساحل التركي.
ملف ناغورنو كاراباخ
لا يبدو أنَّ عنصر المفاجأة الَّذي راهنت عليه أذربيجان (بدفع وتخطيط ورعاية تركية طبعاً) للفوز بالضربة الأولى ضد إقليم ناغورني كاراباخ قد نجح، فالمعركة الهجوميَّة التي اختارتها الوحدات الآذرية في بداية المواجهة لتكون صاعقة وحاسمة، بهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من أراضي الإقليم، تلاشت حدتها. وتباعاً مع الوقت، عادت تلك الوحدات لتخسر شيئاً فشيئاً المواقع التي استطاعت السيطرة عليها، واستعانت أذربيجان بالطائرات المسيرة التركية (وبعضها إسرائيلي أيضاً كما يبدو) لتحقيق الصدمة الأولى، عبر تدمير عدد كبير من مدرعات الإقليم ومراكز وحداته، وقابلتها، وبعد عدة ساعات، مناورة مماثلة بالطائرات المسيرة (المجهولة المصدر، إنما المعروفة بمميزات فعالة شبيهة بفعالية المسيرات الروسية)، وعاد التوازن إلى المعركة، لتكون حالياً عبارة عن تبادل متعادل للضربات البعيدة ولسقوط الخسائر في العديد وفي العتاد.
هذا التوازن في الميدان، والذي حصل نتيجة توازن في زجّ القدرات والأسلحة من خارج حدود أذربيجان وأرمينيا، فرض وسيفرض أكثر مع الوقت العودة إلى التهدئة، ووقف محاولات التقدم، والبحث كما يبدو عن مناورة تفاوضيّة تعيد الاشتباك إلى مربّعه الأول السياسي والدبلوماسي، وكل ذلك حصل بضغط وبشبه إجماع دولي على عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل المغامرة الآذرية في الظاهر، التركية في العمق.
لناحية الموقف الأميركي، ظهر واضحاً، وبقوة، حذر واشنطن من خسارة أرمينيا للإقليم، فهي تريده على الأقل بؤرة توتر مشتعلة في القوقاز وفي حديقة روسيا الخلفية، إذ إنه في انتزاع أذربيجان السيطرة على الإقليم، تنتهي نسبة كبيرة من أسباب التوتر في القوقاز، ويعود الهدوء، ويخف التجاذب، ويُقفَل أحد ملفات ربط النزاع الأميركية الروسية في القوقاز، الأمر الَّذي لا تريده واشنطن، حيث تنمو سياساتها الدولية على الملفات المشتعلة، والتي يتداخل فيها العدد الأكبر من اللاعبين، تماماً كملف ناغورنو كاراباخ، ولكن هذا لا يعني أبداً أن الأميركيين سوف يتخلّون عن الرئيس إردوغان في كلّ الملفات، بل سوف يناورون به وعبره، ففي الملفات التي يناسبهم موقفه فيها، سوف يدعمونه، والعكس صحيح في الملفات الأخرى.
لناحية الموقف الأوروبي، يقف الأوروبيون أساساً مع أرمينيا تاريخياً، إضافة إلى أنهم يأخذون مباشرة موقفاً فورياً يعارض موقف إردوغان في أي ملف يدخل فيه، وذلك قبل دراسته أيضاً، إذ لديهم استنتاج مسبق بأن الأخير معتدٍ دائماً في أغلب ملفاته.
من هنا، وحيث يبدو أنَّ الجميع، ومن ضمنهم الأميركيون بنسبة أخفّ، بدأوا يتذمّرون من أسلوب إردوغان المشاكس لواشنطن وأوروبا وروسيا والخليجيين (المتمولين)، وهم الأهم مبدئياً، وحيث تبيّن أيضاً أنَّ ملفّ إقليم ناغورني كاراباخ هو ملف دوليّ بامتياز، خُلق عبر التوافق بين الأضداد الدوليين ومن خلاله، وعبر تسهيل السيطرة عليه من قبل أبنائه الأرمن المدعومين بقوة من أرمينيا، تم تصحيح خطأ تقسيمي بعد الحرب العالمية الثانية، وسُمح لهؤلاء بإدارة إقليم مستقل عن أذربيجان، إنما يبقى، في نظر هؤلاء الأطراف الدوليين الفاعلين، غير كامل المواصفات ليكون دولة أو إدارة مستقلة معترفاً بها دولياً.
لهذه الأسباب المذكورة أعلاه، يمكن القول إنَّ المغامرة العسكرية التركية الآذرية في ناغورنو كاراباخ في طريقها إلى الانتهاء، ويمكن القول أيضاً إن تركيا، أو الرئيس إردوغان تحديداً، على الطّريق لخسارة ملفّ آخر يضاف إلى سلسلة ملفاته الخاسرة مؤخراً.
الميادين نت
Views: 2