يرى إردوغان في أزماته مع روسيا في ليبيا وأوكرانيا والآن في القوقاز ذرائع فعّالة لمواجهة ضغوط بوتين عليه في سوريا، والتي تحوّلت إلى ساحة أساسية لمجمل الحسابات التركية الإقليمية والدولية منها.
بعد سوريا وليبيا والعراق وهي الساحات الساخنة التي تتواجد فيها تركيا بثقل عسكري واستخباراتي فعّالَين، تدخّلت أنقرة في ناغورنو كاراباخ في رسالة واضحة منها مفادها إنها لا ولن تتخلى عن نهجها الحالي منذ ما يسمى بالربيع العربي. فقد أرسل إردوغان قواته إلى قطر والصومال ولطالما أكّد على أهمية المخابرات ودورها في مجمل الانتصارات التي حقّقتها تركيا في المناطق المذكورة أو تلك التي يتحدث عنها الإعلام باستمرار لاسيما مصر ولبنان واليمن والسودان وتونس وغيرها.
لم يكتفِ إردوغان بهذا القدر بل اتخذ هذه المرة مواقف مماثلة مصحوبة بشعارات حماسية قومية ودينية وتاريخية ضد اليونان وقبرص (حيث الجيش التركي ما زال منذ 1974) وهما لا يقلّان “عداوة” عن الأرمن، وفق المنظور الرسمي للدولة والأمة التركية.
لكن انشغال أنقرة بكل هذه الملفات الخارجية ومواقف المدّ والجزر في مجمل هذه الملفات، لم يمنع الرئيس إردوغان من العودة إلى نهجه وسياسته وسياسات الدولة التركية التقليدية ضد الأكراد، والمقصود بهم هنا حزب العمّال الكردستاني إضافة إلى وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا.
فبعد مضيّ عام ونصف على انتخابات آذار/مارس العام الماضي، وبعد فوز مرشّحي حزب الشعوب الديمقراطي بخمسة وستين بلديةً بما فيها 9 ولايات مهمة، لم يبقَ سوى ستة مرشحين فقط يشغلون مناصبهم، بسبب إقالة وزير الداخلية الآخرين وزجّ معظمهم في السجون بتهمة الإرهاب، والمقصود به هنا علاقتهم بحزب العمال الكردستاني.
كان آخر هؤلاء، الرئيسيين المشتركين لبلدية كارس، شرق البلاد واللذين تمّ اعتقالهما ومعظم العاملين في البلدية وشخصيات من قيادات الحزب وأعضاء برلمان سابقين، وسط معلومات تتوقع حظر نشاط الحزب نهائياً.
حصلت كل هذه الإنتهاكات، وسط تجاهل الغرب “المدافع عن حقوق الانسان والحريات الديمقراطية” باستثناء بيانات استنكار خجولة عوّدنا عليها الإتحاد الأوربي بكل مؤسساته، يقابله تهديدات إردوغان بين الحين والحين بإرسال اللاّجئين السوريين إليها. فحتى القمة الأوروبية الأخيرة التي تمحورت معظم نقاشاتها حول الملف التركي “وسياسات تركيا الاستفزازية في الأبيض المتوسط وبحر إيجة ضد اليونان وقبرص والآن كاراباخ” لم تتحدث ولو بعبارة واحدة عن سياسات إردوغان الداخلية، ليس فيما يتعلق باستهداف الأكراد فحسب، بل عن جميع فئات الشعب، ما دفع رئيس وزرائه السابق أحمد داوود أوغلو إلى اتهام إردوغان بالاستبداد ناسياً أنه هو أيضاً كان جزءاً من هذه السياسات الإستبدادية. فقد سعى هو شخصياً مع بدايات الأزمة السورية وحتى حزيران/يونيو 2015، إلى إقناع صالح مسلم زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بالتمرد ضد الرئيس الأسد، ولكن مساعيه باءت بالفشل لأسباب عدة أهمها أحداث عين العرب /كوباني. وكان هذا الفشل سبباً مباشراً في اندلاع الحرب التي أعلنها الرئيس إردوغان ضد الأكراد في الداخل بعد انتخابات حزيران/يونيو 2015 والتي انتهت معها مسيرة السلام بين الدولة التركية وحزب الشعوب الديمقراطي، الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني. وترى أنقرة في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني ذراعاً سورياً له.
جاء اعتقال صلاح الدين دميرطاش وفيكان يوكساداغ وهما الرئيسان السابقان للحزب مع تسعة آخرين من أعضاء البرلمان – الذين مازالوا في السجن منذ أواخر 2016 – ليزيد الطين بلة في تدهور العلاقة بين الطرفين، دون أن يساعد ذلك إردوغان في التخلص من الحزب الذي فاز بـ 67 مقعداً في الانتخابات البرلمانية في حزيران/يونيو 2018 بعد أن حصل على حوالي 6 مليون صوتاً ليصبح الحزب الثالث في البرلمان، ويليه حزب الحركة القومية العنصري بـ 49 مقعداً مقابل 295 مقعداً لحزب العدالة والتنمية و146 مقعداً لحزب الشعب الجمهوري و43 مقعداً للحزب الجيد.
كما لم يحالف الحظ إردوغان في مساعيه للتخلص من المسلّحين الأكراد شمال شرق سوريا وترى فيهم الدولة التركية الخطر الأكبر لأنهم يحظون بدعم أمريكي كبير وباتوا يملكون كافة أنواع الأسلحة الثقيلة والتكنولوجيات العسكرية المتطوّرة التي ستشكل خطراً جدياً على تركيا، تركيا التي تحارب حزب العمال الكردستاني منذ حوالي أربعين عاماً وهو حزب لا يملك سوى المتفجرات والأسلحة الخفيفة.
وعلى الرغم من التهديدات التي أطلقها إردوغان وتوعّد بها الأكراد في سوريا، فقد اضطر للتراجع عنها بعد رسالة مهينة بعثها له الرئيس ترامب وهدّده “بتدميره وتدمير اقتصاد تركيا في حال الاعتداء على الأكراد في سوريا”، ثم عاد وسمح له بعدها بدخول شرق الفرات بعمق 20-30 كم وعرض 110 كم من رأس العين الى تل أبيض، بموافقة روسيّة ايضاً.
وترى أنقرة في هذا التواجد العسكري في المنطقة المذكورة وبدعم من الآلاف من المسلحين السوريين صمام الأمان ضد أي خطر كردي محتمل في المنطقة، ويراهن إردوغان على بقاء الوضع على حاله إلى ان يتم تقرير مصير سوريا عموماً.
وقد يرى إردوغان في بقاء الوضع على ما هو عليه الآن، مسعىً مع مساعي واشنطن لترسيخ الكيان الكردي الانفصالي، مبرراً بقاء القوات التركية والفصائل الحليفة لها في شرق الفرات وغربه بأنها فصائل مسلّحة كانت ومازالت في خدمة حسابات ومخططات الرئيس إردوغان الخاصة بسوريا والمنطقة عموماً. مما يفسّر رفض إردوغان المطالب الروسية الحثيثة بسحب القوات التركية من جوار إدلب ومناطق أخرى غرب الفرات. كما هو يفسر التهديدات التي أطلقها (السبت) وتستهدف روسيا وأمريكا معا حيث قال “إن تركيا ستعمل بنفسها على تطهير أوكار الإرهابين في سوريا إذا لم يتم الوفاء بالوعود المقدمة لها في هذا الصدد”. وأضاف “أن الوجود العسكري التركي سيستمر في المنطقة إلى أن يتحقق الاستقرار والأمن على حدود تركيا الجنوبية”.
ويرى إردوغان في أزماته مع روسيا في ليبيا وأوكرانيا والآن في القوقاز ذرائع فعّالة لمواجهة ضغوط الرئيس بوتين عليه في سوريا، والتي تحوّلت إلى ساحة أساسية لمجمل الحسابات التركية الإقليمية والدولية منها. وهو ما كان واضحاً في نقل المرتزقة السوريين وغيرهم، من سوريا الى ليبيا والآن الى كاراباخ، ولاحقاً الى أماكن أخرى “وطأتها أقدام العثمانيين وفيها أعداء الأمة والدولة التركية بملامحها الإردوغانية الجديدة”.
لم تمنع هذه المعطيات إردوغان من الاهتمام بحلفائه الأكراد في الشمال العراقي، والمقصود بهم عائلة البرزاني، والذي يريد لهم أن يكونوا، كما عهدهم في السابق، بالمرصاد لحزب العمال الكردستاني وذراعه السوري، خاصة بعد أن تحوّلوا الى حلفاء حقيقيين لأمريكا وفرنسا وبريطانيا التي ترى فيهم قوة فعّالة لمواجهة “المد الايراني في العراق ومنه الى سوريا”.
إنه الهمّ الأكبر بالنسبة لـ”إسرائيل” التي ترى في الدعم الإيراني لدمشق خطراً يعرقل مشاريعها ومخطّطاتها التاريخية، وقد يعرقل استسلام أنظمة الخليج لها. وقد ترى أنقرة بدورها أن التصدي الأمريكي / الأوروبي “للمد الإيراني الشيعي” يخدم مصلحتها لاسباب تكتيكية واستراتيجية قومية وطائفية خاصة اذا ساهمت في إضعاف الدور الإيراني في العراق وسوريا ولبنان.
وتعكس الحملة الأخيرة، التي تشنّها وسائل الإعلام الموالية للرئيس إردوغان ضد إيران في موضوع كاراباخ، هذه العقلية التركية التي تستغلها العواصم الغربية وتل أبيب وتستفيد منها بشكل مباشر وغير مباشر وتستخدمها كورقة مساومة في العديد من الملفات لاسيما ملف الأكراد. ويعيش أكثر من 20 مليون كردياً في تركيا والباقي في إيران (7) والعراق (5) وسوريا (3) و كانوا طيلة 100 عام الماضية، أي منذ اتفاقية سيفر (آب 1920) ورقة قابلة للاستعمال والاستهلاك من قبل جميع الأطراف الداخلية والخارجية إقليمياً ودولياً.
إن سياسات الرئيس إردوغان خير دليل على ذلك، بعد أن سعى إلى استمالتهم مع بدايات الربيع العربي من أجل حساباته الإقليمية الجديدة. وعندما فشل في مخططه، رسم لهم مخططات جديدة. لكن، لطالما حظي الأكراد بدعم أمريكي مباشر لا يسَعُ إردوغان مواجهته أو تحدّيه، مما دفع الرئيس إردوغان إلى الرهان على التغيرات المحتملة التي قد تدفع واشنطن للتضحية بالأكراد، وهو ما فعلته عدة مرات سابقاً، هذا بالطبع إن رأت الولايات المتحدة أن تركيا، ولأسباب عدة، أهم من الأكراد بكثير. وقد يدفع مثل هذا الاحتمال الرئيس إردوغان إلى العودة للحليف التقليدي واشنطن، مسبباً الإحراج لروسيا ليس في سوريا وليبيا والقوقاز وأوكرانيا فحسب، بل في كل مكان تتواجد فيه.
هذا ما كانت تركيا تفعله في العهد الثاني لجلال بايار – عدنان مندرس للفترة 1950-1960، فقد انضمت آنذاك إلى حلف بغداد والأطلسي وأرسلت جيوشها للقتال في كوريا وتصدّت للمدّ القومي الناصري والشيوعية وسمحت إبقامة أكثر من مائة قاعدة أمريكية – أطلسية على أراضيها. ولطالما تظاهر اليساريّون ضد السياسات التركية وكان الإسلاميون لها بالمرصاد وهم يحملون الأعلام الأميركية!
الميادين
Views: 1