تشكّل الانتخابات الأميركية محطةً بالغة الأهمية، ليس لمواطني الولايات المتحدة فحسب، إنما لبقية دول العالم ومواطنيها أيضاً، ذلك أن تأثير الرئيس الشّاغل للمكتب البيضاوي يمتد من واشنطن إلى كل أصقاع الأرض، كقائدٍ لأكبر قوة في العالم، فما هي طبيعة النظام الدّستو
تعيش الولايات المتحدة اليوم ظروف الانتخابات الرئاسية الاستثنائية. انتخابات لا تشبه المحطات التي عرفتها في السابق، وهي مختلفة أيضاً عن تلك التي جرت في العام 2016 وفاز بها دونالد ترامب، فالتوتر اليوم على أشده، ولا تقتصر التحديات على ارتفاع منسوب الحماس الشعبي والصّراع السياسي بين الحزبين، إنما تتعدى ذلك إلى احتمالات أكثر خطورة أصبحت تهدد الاستقرار الأمني للبلاد ووحدتها ونظامها الدستوري.
في السطور التالية، نلقي نظرةً على أبرز معالم النظام الدستوري الرئاسي في أميركا، وظروف نشأته، والصلاحيات التي يعطيها للرئيس، إضافة إلى المهام التي يلزمه بها.
نشأة النظام الدستوري الأميركي
كانت الولايات المتحدة تتألف من 13 مستعمرة بريطانية ذاتية الحكم في نهاية القرن السادس عشر. ومع بقائها متصلةً وتابعة للتاج البريطاني في الشؤون المركزية، كالدفاع والخارجية، اكتسبت هذه المستعمرات مكتسبات إدارة شؤونها الداخلية بنفسها، فأسست مجلساً تمثيلياً لكل مستعمرة من تلك المستعمرات، وعيّنت حـاكـماً خـاصاً بـهـا يعاونه مجلس تنفيذي.
وأدى عامل البعد الجغرافي بين الإدارة المركزية في لندن والمستعمرات على الضفة الأخرى من الأطلسي دوراً بارزاً في إعطاء الاستقلالية النسبية للمستعمرات الأميركية التي لم تعد قابلةً للسيطرة بصورةٍ يسيرة مع الوقت، فعمَّت فيها الاعتراضات والثورات الشعبية المحلية، حتى وصلت إلى مرحلة حرب تحريرية في وجه بريطانيا. ولعلَّ السّبب الّذي كان عامل الحسم في إشعال فتيل الرغبة في الاستقلال هو مقاومة أهالي تلك المستعمرات للضرائب التي فرضها البرلمان البريطاني عليهم، وخصوصاً أنه لم يكن في ذلك البرلمان ممثلون لتلك المستعمرات الأميركية ومنتخبون منها، فكان شعار الثورة التحريرية يتلخَّص في عبارة شهيرة “لا ضريبة من دون تمثيل”.
لقد امتدت حروب التحرير الأميركية ضد المركز البريطاني بين العامين 1764 و1774، وتوحَّدت خلالها المواقف بين الولايات الـ13، لتتمكن من تحقيق الاستقلال عن بريطانيا في 4 تموز/ يوليو 1776 (تاريخ العيد الوطني الأميركي)، إذ أقامت نظاماً اتحادياً بديلاً من الاستعمار، في ظل استمرار الحرب معه.
ورغبت هذه الدول المتحدة المستقلة عن التاج البريطاني في توحيد صفوفها، بأن تعقد في ما بينها نوعاً من أنواع الاتحاد يطلق عليه اتحاد الدول المتعاهدة في العام 1777، وقد بدأ على شكل هيئة تنفيذية، إلا أنها كانت هيئة ضعيفة، لأن اختصاصها كان مقتصراً على الشؤون الخارجية والحربية، وكان يشترط موافقة ثلثي أعضاء هذه الهيئة من أجل إصدار قرار منها. وانتهت الحرب بانتصار الثورة التحريرية على الاستعمار البريطاني في العام 1781، لتقر معاهدة باريس باستقلال تلك الدول.
بعد الاستقلال، رأت الدول المستقلة أنَّ قيام سلطة مركزية قوية أصبح ضرورةً تحقّق مصلحة كلّ منها – على الرغم من أن الخلافات لم تكن قد انتهت في ما بينها – ولا سيما الدول الأقل مساحةً التي كانت تخشى من ذوبانها في اتحاد تشترك فيه مع دول أكبر منها وأكثر سكاناً، كما كانت هذه الدول تخشى مسألة التنازل عن سيادتها لمصلحة السلطة المركزية لدولةٍ جديدة غير معلومة المصير.
لكن بعد مخاض طويل من النقاشات، توافقت الدول الـ13 على الاندماج ضمن دولةٍ فيدرالية واحدة، وأرسلت كل واحدةٍ منها ممثلين إلى اجتماع عقد على شكل جمعية تأسيسية في فيلادلفيا في 25 أيار/مايو 1787، إذ وضعوا دستوراً لدولة جديدة، وهو الدستور الحالي للولايات المتحدة الأميركية. وقد تمت الموافقة عليه في تلك الجمعية التأسيسية بأغلبية 39 صوتاً من أصل 55. لقد أتى هذا الدستور ليكون حلاً وسطاً بين مطالب الدول – الولايات المختلفة أو التيارات الفيدرالية والتيارات الإقليمية في ذلك الوقت.
وتأسَّس النظام الرئاسي الأميركي بمقتضى الدستور الصادر في العام 1787، لينتخب جورج واشنطن كأوّل رئيس للاتحاد المركزي في الولايات المتحدة طبقاً للدستور الذي ما يزال معمولاً به حتى الآن، مع بعض التعديلات التي جرت خلال كل تلك العقود الماضية.
لقد أعطى المشرّع الأميركي والقادة المؤسّسون للدولة رئيس البلاد السلطة التنفيذية بصورةٍ بالغة الصلاحيات، وحدّدوا في الدستور الأميركي، وتحديداً في المادة الثانية من الفقرة الأولى منه، 3 مؤهلات يجب توافرها فيمن يتقدم للترشيح إلى منصب الرئاسة، وهي: أن يكون مولوداً في الولايات المتحدة الأميركية، وأن يكون قد بلغ الخامسة والثلاثين من العمر، إضافة إلى أن يكون قد أقام في الولايات المتحدة 14 عاماً على الأقل.
وفي البداية، لم ينص الدستور على موضوع التجديد لولاية ثانية، لكن المعطى الذي أثر في هذا الأمر لاحقاً، كان رفض أول رئيس أميركي، وهو جورج واشنطن، أن تجدد له الولاية مرة ثالثة في العام 1797، فاعتُبرت الولايتان اللتان ترأسهما (8 سنوات) سابقةً، ليدرج في ما بعد تقليد عدم جواز التجديد لولاية ثالثة. ولم يتمكن أحدٌ من تجاوز هذه السابقة، سوى ظروف الحرب العالمية الثانية، التي دفعت بالرئيس روزفلت إلى الاستمرار منذ العام 1932 وحتى وفاته في نيسان/أبريل من العام 1945 مع نهاية الحرب (4 ولايات رئاسية). بعد ذلك، تم تعديل الدستور ليعيد الأميركيين إلى التقليد الذي يحدّ ولايات الرئيس الممكنة باثنتين، كل واحدة منهما لأربع سنوات. وفي حالات الطوارئ وشغور موقع الرئاسة، يكمل نائب الرئيس ما بقي من الولاية الرئاسية، ويكون رئيساً لمجلس الشيوخ، وينتخب مع الرئيس لمدة أربع سنوات.
الانتخابات الرئاسية
يعمل النظام السياسي في الولايات المتحدة الأميركية وفق نظام التعددية الحزبية، نظراً إلى وجود أحزاب سياسية عديدة، لكنه في ظاهره وفي أغلب نشاطاته معروفٌ على أنه نظام الحزبين. ويؤدي النظام الانتخابي دوراً بارزاً في التقليل من شأن الأحزاب الأخرى وأدوارها، حيث لا يسمح بظهورها بشكل فاعل ومؤثر إذا لم تتمكن من الفوز في الانتخابات العامة. ووفقاً لقانون الانتخاب الأميركي، فإن الأحزاب السياسية تؤدي دوراً رسمياً في اختيار المرشحين للانتخابات العامة، وهذا الاختيار يطلق عليه “التعيين”، حيث إن المرشحين للانتخابات في أغلب الولايات الأميركية ليسوا أحراراً في هذا المجال، فالحزب وحده من يملك الحق في تقديم المرشحين للانتخابات العامة، ويمكن للمستقلين من خارج الحزبين الترشح للرئاسة.
أما الرئيس، فيتمّ اختياره عن طريق الانتخاب غير المباشر، عن طريق قيام الناخبين المسجلين في الجداول الانتخابية في كل ولاية بانتخاب عددٍ من المندوبين يتساوى مع مجموع عدد أعضاء مجلس النواب والشيوخ المخصصين للولاية، يضاف إليها بحسب الفقرة الأولى من التعديل الدستوري الثالث والعشرين عدد من المندوبين المؤقتين عن مقاطعة كولومبيا التي تضم العاصمة. ويُشْتَرَط أن لا يكون جميع المندوبين الناخبين أعضاء في الكونغرس، ويتولى المندوبون انتخاب رئيس الدولة.
إنَّ قوّة التنظيم الحزبي في أميركا قلَّلت من دور المندوبين لمصلحة التوجهات الحزبية الواضحة، فقد جرت العادة أن يلتزم المندوبون بالتوجيه الحزبي لناحية انتخاب الرئيس، كما يلتزمون بإرادة الناخبين في المرحلة الأولى من الانتخابات، الأمر الّذي جعل الكثير من الباحثين في الأنظمة الدستورية يقولون إنَّ انتخاب الرئيس في أميركا يقترب من أن يكون مباشراً من الشعب، من وجهة نظرٍ فعلية.
وتجري العملية الأولى من الانتخاب داخل كل من الحزبين، إذ يتم اختيار المرشحين من أحزابهم، ويطلق عليها الانتخابات الأولية المفتوحة أو العلنية. ويقوم في هذه المرحلة كل ناخب بتحديد حزبه في مركزه الانتخابي، قبل أن يختار مرشحه من بين قائمة مرشحي الحزب. والهدف من هذه المرحلة تحديد مرشّح كلّ من الحزبين.
بعد ذلك، يقيم كل حزب مؤتمراً عاماً، ليعلن فيه مرشحه في الانتخابات الرئاسية. ويجتمع مندوبو كلّ حزب الذين سبق انتخابهم، إضافة إلى بعض قيادات الحزب، لينتخبوا مرشحاً للحزب ونائباً له في الانتخابات الرئاسية. ويكون المرشح الذي يحصد العدد الأكبر من أصوات المندوبين هو مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية.
أما بعد اختيار الحزبين لمرشحَيهم في السباق الرئاسي، فتبدأ المرحلة الثانية، وتسمى بالانتخابات المغلقة أو السرية، إذ يجتمع مندوبو الولايات في عواصم ولاياتهم، كلٌّ في ولايته، ويصوّتون بالاقتراع السري للرئيس ولنائب الرئيس، فيذكرون في أوراق اقتراعهم اسم من يختارونه رئيساً، وفي أوراق اقتراع أخرى اسم من ينتخبونه نائباً للرئيس.
وبحسب هذا النظام الانتخابي، فإن الفائز بأغلبية الأصوات الشعبية في الولاية يفوز بجميع أصوات الولاية في المجمع الانتخابي، وهو ما يعرف بنظام “الفائز يفوز بالكل”، ثم يوقعون هذه اللوائح، ويصادقون عليها، ويحيلونها مختومةً إلى مقر حكومة الولايات المتحدة موجّهة إلى رئيس مجلس الشيوخ.
وخلال جلسة مشتركة للكونغرس (مجلسي النواب والشيوخ)، وبحضور رئيس مجلس الشيوخ وأعضاء المجلسين، تفرز جميع مظاريف اللوائح، ثم يحصى عدد الأصوات، ويصبح رئيساً المرشح الذي ينال العدد الأكبر من أصوات المقترعين. وتبدأ ولاية الرئيس الجديد ونائبه في ظهر يوم 20 كانون الثاني/يناير، أي في الساعة نفسها التي تنتهي فيها ولاية الرئيس السابق ونائبه.
صلاحيات الرئيس ومسؤولياته
يعطي الدستور الأميركي الرئيس صلاحيات واسعة جداً. لذلك، هو من الأنظمة التي تصنف رئاسيةً، فبعد أن يؤدي الرئيس الرابح في الانتخابات اليمين الدستورية، ويبدأ بتنفيذ مهامه، يشرع بجمع مهام رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة بين يديه. واستناداً إلى التمثيل الشعبي الذي انبثق منه رئيساً، فإنه يمارس صلاحياته التنفيذية من دون هاجس الخضوع الكامل للبرلمان، كما هو الحال في أنظمة دستورية أخرى.
ويتولى الرئيس انطلاقاً من هذه المعطيات تحديد معالم السياسة العامة للحكومة، فيجمع بين يديه الوظائف التنفيذية كافة، ويعاونه في شأنها عدد من الأجهزة التي تعمل تحت إدارته، ويتم تعيين مسؤوليها وإقالتهم من قبله، من دون أي تدخل من جانب مجلس الشيوخ، وتكون مهمة الوزراء (السيكريتاريون في النظام الأميركي) تقديم المعطيات والآراء للرئيس، بينما يبقى هو صاحب الرأي الأهم في إدارة البلاد، لكنه يخضع مع وزرائه للمساءلة أمام الكونغرس.
وكما في أنظمةٍ دستورية أخرى (بما فيها غير الرئاسية)، يكون الرئيس قائداً أعلى للجيش والقوات المسلحة والبحرية والقوات الشعبية في مختلف الولايات، عندما يتم استدعاؤها لأداء الخدمة الفعلية. ويحق له إرسال قوات إلى خارج البلاد أو استخدام القوة العسكرية عند الضرورة. وله أيضاً سلطة إصدار الأمر باستخدام الأسلحة النووية، كما تكون له السلطة، بمشورة مجلس الشيوخ وموافقته، لعقد معاهدات وتعيين سفراء بموافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس الحاضرين.
يعكف الرئيس خلال سير ولايته على إطلاع الكونغرس على “حال الاتحاد”، ويعرض الإجراءات التي يراها ضرورية لتحسين الأوضاع، وله في ظروف استثنائية أن يدعو المجلسين أو أحدهما إلى الانعقاد. وفي حال حدوث خلاف بينهما بالنسبة إلى موعد فضّ الجلسات، له أن يفضّها إلى الموعد الذي يراه ملائماً، وعليه أن يستقبل السفراء والوزراء المفوضين الآخرين، كما عليه أن يراعي بأن تُنَفَذْ القوانين بإخلاص، وأن يشمل بتكليفه جميع موظفي الولايات المتحدة. أما على مستوى راتب الرئيس الذي يصل حالياً إلى حوالى 400 ألف دولار سنوياً، فإنَّ الدستور الأميركي يمنع زيادته أو إنقاصه خلال فترة ولايته (أي تغيير يطبق على الرئيس التالي)، كما لا يمكن للرئيس تلقي أية مداخيل رسمية أخرى من الدولة المركزية أو من إحدى الولايات.
والرئاسة هي رمز وحدة الأمة الأميركية. لذلك، إن الاقتراع في الانتخابات الرئاسية يحوز أهميةً عالية عند المواطنين الأميركيين، لا أهمية أكبر منه لأيّ حدثٍ سياسيٍ آخر. ولا تأتي قوة الرئيس في ممارسة مهامه وفي موقعه من الصلاحيات التي ينوطها الدستور به فحسب، بل أيضاً من هذه الأهمية التي يوليها الشعب لانتخابه، واعتبار ولاية الرئيس منبثقةً من الإرادة الشعبية التي لا يجوز تجاوزها.
وترجع قوة الرئيس أيضاً إلى أسباب تاريخيّة تتعلّق بظروف نشأة البلاد، إذ أراد الأميركيون اختيار رجلٍ قوي يعبّر عن القدرة على التلاحم بين المكونات، والتمكّن من إدارتها وحكمها، والتغلّب على النزاعات المحلية أو الإقليمية للولايات. إنَّ الرّغبة في وجود حاكم قوي له نفوذ هي التي دفعت واضعي أسس النظام الدستوري إلى تقوية موقع الرئاسة لتمتين الروابط بين الولايات وتحقيق الاستقرار السياسي في البلاد.
لكن اليوم، ومع وصول حدة الانقسامات السياسية إلى نقطة قريبة من الفوضى الشعبية والتسلّح العام، والتلويح باستخدام العنف من أجل السلطة، وذهاب الرئيس بعيداً في المبالغة باستخدام القوة والتهديد بها في الداخل والخارج، هل تبرز ضرورات جديدة لضبط صلاحيات الرئيس؟
يجزم خبراء دستوريّون بذلك، لكنّهم لا يحددون وقتاً لتحول هذه الضرورات إلى تعديلات دستورية تكبح جماع رؤساء كدونالد ترامب.
الميادين نت
Views: 1